النمو الاحتوائي وخلق فرص العمل في مصر

5 مايو 2018

المقدمة

شكرا معالي الوزير عمرو الجارحي على هذا التقديم الكريم. إنني سعيد للغاية بوجودي في القاهرة، ويشرفني انضمام هذه المجموعة المتميزة من الحضور إلينا هذا المساء.  

وأود أن أتقدم بالشكر إلى حكومة مصر على موافقتها على تنظيم هذا المؤتمر بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي. وأود أن أعرب عن تقديري بصفة خاصة لسعادة محافظ البنك المركزي السيد طارق عامر معالي وزير المالية السيد عمرو الجارحي على ما يقدمانه من دعم—لهذه الفرصة السانحة لمناقشة قضايا مهمة لمستقبل مصر، وبصورة أعم، على روح التعاون التي يتسمان بها في عملنا معا.  

ويأتي انعقاد هذا المؤتمر في فترة حاسمة تشهدها مصر. ففي 2016، كان هذا البلد يواجه تحديات اقتصادية جسيمة. وكان قويا في مواجهتها. وواصل عمله في مواجهتها، وكُتِب له النجاح.   

والنتائج واضحة: لقد عاد الاستقرار الاقتصادي الكلي وعادت الثقة إلى الأسواق، واستأنف النمو مساره، وتراجع التضخم، بينما يُتوقع انخفاض نسبة الدين العام للمرة الأولى منذ ما يقرُب من عقد من الزمن. وكان لكثير من الحضور في هذه القاعة دور في هذا النجاح، والشعب المصري نفسه كان له دور حينما دُعي إلى التحلي بالصبر خلال وقت عصيب. 

ولكن الوقت قد حان الآن للاستفادة من الاستقرار الاقتصادي الكلي الذي تحقق بصعوبة بالغة والمضي نحو خلق فرص العمل ورفع مستويات المعيشة من خلال النمو المستدام. وربما كان ذلك أمرا صعبا، لكنه سيؤتي ثمار كل الجهود التي بُذِلت حتى يومنا هذا.

لقد نجح كثير من البلدان في النجاة من المخاطر المالية المحيقة وحقق درجة من الاستقرار الاقتصادي الكلي. ولكن عددا قليلا منها هو الذي حافظ على هذا الاستقرار وواصل جهوده لاستكمال عملية تحديث تدفع النمو المستدام الشامل للجميع. ومصر أمامها الآن الفرصة لتفعل ذلك. الأمر الذي يتطلب توسيع نطاق برنامج الإصلاح وتعميقه.    

لقد أتينا إلى القاهرة للمشاركة في حوار استشرافي حول الخطوات التالية—لنطرح سؤال عما يمكن عمله لتوفير فرص أكبر لجميع المصريين، ولا سيما ملايين الشباب من النساء والرجال الذي يتطلعون إلى بناء مستقبل أفضل. وبوجه عام، نحن جميعا نعلم أن الجواب ينطوي على تقوية النشاط الاقتصادي بقيادة القطاع الخاص وتعزيز الانفتاح للتمكن من زيادة الاستثمار وزيادة الصادرات وخلق مزيد من فرص العمل.  

اسمحوا لي أن أبدأ بقول إنني لست خبيرا في شؤون بلدكم. ومن ثم، فإنني لا أعتزم هذا المساء أن أضع أي وصفات، إنما هدفي هو التمهيد لمناقشتنا من خلال إلقاء الضوء على قصص نجاح بلدان أخرى قد تجدونها مفيدة. وأبدأ بمسألة تعلمناها نحن في الصندوق على مر العقود، ومسألة برهنت عليها مصر مؤخرا، وهي أن السياسات الاقتصادية الفعالة يتعين أن تُبنى على التوافق في الآراء وعلى الشعور بملكيتها في الداخل. وآمل أن نتمكن من المُضي قُدُما في تنفيذ جدول أعمال بشأن السياسات يلقى قبول المجتمع المصري قاطبة—الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني والمواطنين.     

إذن، اسمحوا لي أن أتحدث قليلا عن الإطار العالمي لجهودكم، وأن أستعرض سريعا الطريق الذي قطعتموه، ثم أطرح في النهاية بعض الأفكار حول التحديات الاقتصادية التي لا تزال باقية.  

الاقتصاد العالمي ومصر

إن الاقتصاد العالمي آخذ في التحسن مع اكتساب التجارة والاستثمار قوة لم نشهدها على مدى عقد من الزمن. وتعود هذه العوامل بالنفع على معظم البلدان، بما فيها مصر. وتشير التوقعات في آخر إصداراتنا من تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" إلى استمرار التوسع في المستقبل القريب، بينما النمو العالمي سيبلغ 3.9% هذا العام وفي 2019. وهذه البيئة الخارجية المواتية تتيح فرصة ملائمة أمام مصر كي تنفذ إصلاحاتها، وهي فرصة قد لا تُتاح لفترة طويلة.   

والسبب وراء ذلك هو أن الآفاق متوسطة الأجل تتسم بقدر أكبر من عدم اليقين. فعلينا أن نتوقع ارتفاع أسعار الفائدة وضيق الأوضاع المالية. ونحن جميعا ندرك أجواء عدم اليقين التي تخيم على نظام التجارة العالمية. مما يعني أن الأوضاع ستصبح أقل إيجابية في وقت ما.

وبعبارة أخرى، هذا هو الوقت المناسب لكي تعمل مصر على تسريع الخُطى نحو النمو وخلق فرص العمل.   

ويمكننا أن نرى الأمور على المحك بمجرد النظر إلى الطريق الطويل الذي قطعتموه. في عام 2016، كان الاقتصاد المصري يعاني تحت وطأة انخفاض النمو، وتأخر الاستثمار، وارتفاع التضخم، وتزايد الدين الحكومي. وكان حقيقة يعاني من مخاطر عدم الاستقرار.  وفي ظل برنامجكم الإصلاحي المدعم بموارد الصندوق، قمتم بتحرير سوق الصرف الأجنبي وتشديد السياسة النقدية. لقد بذلتم كل الجهد لضبط أوضاع المالية العامة على مدى ثلاث سنوات، بما في ذلك إصلاحات الدعم. واتخذتم كذلك إجراءات حاسمة لتقوية بيئة الأعمال وتحسين إدارة الموارد العامة.

وتشهد هذه الفترة تعافي الصادرات والسياحة، وتراجُع العجز في الحساب الجاري، كما تحسنت مستويات الثقة وانتعش الاستثمار. ونتيجة لذلك، بلغ النمو في العام الجاري حتى وقتنا هذا 5.2%، كما يُتوقع انخفاض التضخم إلى 11%. وهناك أدلة واضحة على أن سيطرة البنك المركزي المصري على السياسة النقدية مكنت من احتواء الآثار الجانبية لانخفاض سعر صرف الجنيه، وارتفاع أسعار الوقود، وتطبيق ضريبة القيمة المُضافة. 

أما إصلاح الدعم في حد ذاته فقد أتاح بعض الموارد اللازمة لتمويل المساعدات الاجتماعية الموجهة لمستحقيها. وسمح كذلك بتوجيه أسعار الوقود نحو مستوى أقرب إلى تكلفتها الحقيقية. إن تخفيض الدعم يتيح زيادة الكفاءة في تخصيص الموارد على مستوى الاقتصاد—وهو ما يشكل عنصرا مهما في إطلاق الإمكانات الاقتصادية لمصر.

تجارب البلدان الأخرى

ويتضح من تجارب البلدان الأخرى أنه ليس من السهولة بمكان مواصلة بذل الجهود لتحقيق الاستقرار، ما لم تكن تدفعها نحو تحقيق النمو وجني المنافع التي يتوخاها جميع المواطنين. وفي كثير من البلدان، يؤدي تحقيق الاستقرار في غياب إصلاحات أعمق إلى الشعور بالإرهاق والميل إلى التراخي والمعارضة من أصحاب المصالح المكتسبة مما يضعف زخم الإصلاح. مثله كمثل الدراجة، مالم تواصل الضغط لتحريكها، فإن حركتك تتباطأ ثم تتهادى في نهاية المطاف.

وفي مصر، هناك العديد من الأسباب المباشرة التي تستدعي مواصلة بذل جهود الإصلاح. فمن المؤكد أن الموارد العامة ازدادت رسوخا، لكن الدين العام لا يزال شديد الارتفاع. ويتعين بذل جهود كبيرة لضبط الأوضاع المالية وإتاحة الحيز اللازم للإنفاق في المجالات الأساسية مثل الصحة والتعليم. أما التأخر في مواصلة تنفيذ إصلاحات دعم الطاقة فيمكن أن يؤدي مرة أخرى إلى تعريض الموازنة لمخاطر ارتفاع أسعار النفط العالمية.

والأهم من ذلك أن مصر لا يسعها التأخر في جهود خلق فرص العمل. فمع حلول عام 2028 سيرتفع عدد السكان في مصر ممن هم في سن العمل بنسبة قدرها 20%، الأمر الذي سيؤدي إلى بلوغ حجم القوى العاملة 80 مليون مصريا بعد 10 سنوات فقط. وخلق فرص العمل لكل هؤلاء المواطنين هو حتما أكبر تحد اقتصادي أمام مصر.

ولكن في الوقت ذاته، فإن هذا التحدي الأكبر أمامكم، أي توظيف الشباب، هو أيضا فرصتكم الكبرى. فإذا استطاع هذا البلد أن يستفيد من إمكانات شبابه – بالوصول بمستوى البطالة والمشاركة في قوى العمل إلى المستويات المشاهدة في العديد من بلدان الأسواق الصاعدة الأخرى – فإن استيعابهم في الاقتصاد يمكن أن يعطي دفعة للنمو ليصل إلى نسبة تتراوح بين 6% و 8%. وهذا ما يعد تحولا اقتصاديا. فسوف يعني تحسين مستويات المعيشة لشرائح كبيرة من السكان.

فهل هذا ممكن؟ إنه أمر تتعذر معرفته. ولكنه حدث من قبل في بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة الأخرى. وقد ينطوي تاريخ هذه الاقتصادات على دروس يمكن تطبيقها على حالة مصر. وهذا هو سبب دعوتنا لصناع السياسات من الهند وكوريا وماليزيا لعرض رؤيتهم هنا غداً.

ولأغراض هذه المناقشة، دعونا نستعرض بإيجاز ثلاثة بلدان استطاعت أن تتخطى العديد من العقبات التي تواجه مصر حاليا.

أولا، إندونيسيا: خرجت إندونيسيا من أزمة عميقة في عام 1998 عازمة على التخلص من ظاهرة المحاباة والتحرر من سيطرة الحكومة المركزية على اقتصادها الشاسع. فجاءت الإصلاحات لتضع حدا للاحتكارات الحكومية وسمحت بتمكين القطاع الخاص، ونقلت موارد الدولة وعملية صنع القرار إلى السلطات المحلية، وشجعت السياسات الاقتصادية التي تسترشد بآليات السوق. وتزايدت ديناميكية الاقتصاد أكثر وحقق نموا مطردا.

ثانيا، المكسيك: في عام 2013 اتخذت المكسيك مجموعة من الإجراءات الحاسمة الرامية إلى زيادة نمو الإنتاجية. فقد تم فتح قطاع الطاقة للاستثمار الخاص، بعض أن الذي ظل خاضعا لهيمنة الدولة لفترة طويلة، وإحلال التنافس الحر محل احتكار القلة لقطاعي الاتصالات والتمويل. وبدأت الاستكشافات في مجال الطاقة انطلاقة جديدة، وانخفضت تكلفة الاتصالات، مما حقق منافع على نطاق واسع. وبدأت المكسيك أيضا في اجتذاب المواطنين خارج الاقتصاد غير الرسمي ودمجهم في اقتصاد التيار الرئيسي، من خلال إصلاحات سوق العمل التي تسمح بزيادة مرونة إجراءات التعيين – بما في ذلك التعيين تحت التدريب والاختبار. وكانت نتيجة ذلك خلق 3.5 مليون فرصة عمل في السنوات الخمسة الماضية، وهو أكثر مما تحقق طوال الاثنتي عشرة سنة السابقة إجمالا. وتراجع التوظيف في القطاع غير الرسمي مع ازدياد معدل نمو التوظيف في القطاع الرسمي بضعف معدل نمو إجمالي الناتج المحلي.

ثالثا، الهند: هناك مجموعة من الأهداف المشتركة بين الهند ومصر وهي تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي وجعلها متاحة لعدد أكبر من السكان والحد أشكال عدم الكفاءة البيروقراطية والفساد في نظم المنافع الاجتماعية. وقد عملت الهند على تحقيق هذا الهدف باستخدام بيانات المقاييس الحيوية (البيومترية) كأحد أشكال تحديد الهوية، فأنشأت نظام مدفوعات يقوم على أساس نظام تحديد الهوية الشخصية، ثم قامت بتوجيه المدفوعات المباشرة لإعانات الدعم والمنافع الاجتماعية عبر هذا النظام. وقد أدى هذا البرنامج إلى تبسيط الروتين الإداري في شبكة الأمان الاجتماعي، والأهم من ذلك أنه استطاع أن يحد من فرص الفساد. وأدى كذلك إلى تعميق الشمول المالي بدمج قرابة 300 مليون مواطن في الاقتصاد الرسمي.

وتوضح تجربة الهند كيف يمكن لأي بلد استغلال التكنولوجيا في التغلب على العقبات أمام التنمية. وهذه نقطة بالغة الأهمية. فمسألة أن التكنولوجيا لا تعود بالنفع إلا على الاقتصادات المتقدمة هي أمر غير صحيح. فالتكنولوجيا يمكن أن تحدث تغييرا جذريا في هذا البلد أيضا. ولكن التطور التكنولوجي يمضي سريعا، وأي بلد لا يواكب هذه التطورات يجازف بالتخلف عن الركب.

دور القطاع الخاص

وكل هذا يشير إلى الحاجة لسياسات في مصر تشجع على نمو قطاع خاص يتمتع بالعافية – لأن هذا هو المصدر الواقعي الوحيد لفرص العمل اللازمة. فما المطلوب إذن لتحقيق ذلك؟

اسمحوا لي أن أختتم باقتراح قائمة من البنود للنظر فيها ومناقشتها غدا في المؤتمر.

تهيئة مناخ أعمال تتسم فيه قواعد اللعبة بالبساطة والشفافية وتحظى بالاحترام، حيث تستطيع المؤسسات الصغيرة أن تنمو لتصبح متوسطة الحجم بل وتصبح شركات كبيرة.

وزيادة اليقين التنظيمي الذي يشجع على المنافسة.

تخفيف بصمة القطاع العام في الاقتصاد، وخاصة في قطاعي الأعمال والتجارة، لإتاحة حيز لنمو القطاع الخاص وتخفيف الضغوط الواقعة على رواد الأعمال من دخولهم منافسة لا يمكنهم الفوز فيها مع القطاع العام.

وتوخي القدر الكافي من مرونة سوق العمل بما يتيح للشباب العثور على الوظائف.

وتخفيض الحواجز غير الجمركية والحماية للصناعات المحلية حتى تتمكن الشركات المصرية من الاندماج في سلسلة العرض العالمية، والتوسع لتأخذ نصيبا أكبر في السوق العالمية.

وإقامة نظام اقتصادي قائم على العدالة وخال من الفساد.

وقد تبدو بنود هذه القائمة جسيمة. والواقع أني أعتقد أنها كذلك. 

ولكني أرى أن جانبا كبيرا منها ينبغي التصدي له حتى تتمكن مصر من إقامة اقتصاد حديث، وتلبية تطلعات شبابها، ورفع مستويات المعيشة.

وصندوق النقد الدولي على أهبة الاستعداد للمساعدة، من خلال برنامجنا وما هو أكثر من ذلك، في عرض تجارب بلدان أخرى يمكن أن تعود على مصر بالفائدة. وجانب كبير من جهودنا في هذا الشأن يتمثل في المساعدة على نشر قصص نجاح بلداننا الأعضاء. وأنا كثيرا ما أخبر من حولي كيف ساعد الشعور بملكية البرنامج والجرأة في تنفيذه هنا في مصر على تحقيق النتائج المرجوة. وبإمكاننا كذلك مساعدتكم تحقيق نتائج مماثلة على مستوى الإصلاح والتحديث. وهذا التزام نستوفيه من خلال ما نقدمه من مشورة ومساعدة فنية وتدريب.

وفي نهاية المطاف، الأمر متروك لمصر للتصدي لمهمة بناء بلد أفضل يلبي احتياجات كل المصريين. لنعمل على أن يساهم هذا المؤتمر في تحديد السياسات التي تسمح بالوصول إلى هذه النتيجة، وترتيب أولوياتها.

وإني لأتطلع إلى العمل معكم للمضي قدما بمسيرة النجاح الاقتصادي في مصر.

شكراً