صندوق النقد الدولي

Search

أكثر أم أقل

التمويل والتنمية --سبتمبر 2011 - المجلد 48 - العدد 3

برانكو ميلانوفيتش Branko Milanovic

زاد تفاوت الأجور على مدار ربع القرن الماضي بدلا من أن ينخفض كما كان متوقعا

لا تزال فجوة عدم المساواة مستمرة في التنامي. ولا تزال أوجه التفاوت – بين الأغنياء والفقراء في البلد الواحد، وحتى وقت قريب، بين البلدان المختلفة مستمرة في الازدياد. وبينما لا تزال الأزمة المالية العالمية مستمرة في كبح الدخول الحقيقية في الاقتصادات المتقدمة، نجد أنها تسببت على الأرجح في تقليص فجوة التفاوت العالمي بين شعوب العالم، لأن معظم البلدان النامية واصلت النمو بقوة. ويرى البعض أن عدم المساواة ليس مهما طالما أن الأسواق تعمل بكفاءة، أو أن الجميع يحصل على عائدات أكبر. ويرى البعض الآخر أن عدم المساواة يعيق النمو، أو أنه لا يمكن من الناحية الأخلاقية قبول هذا التفاوت إلا بقدر محدود.                      

القياس

كيف يقاس عدم المساواة؟ غالبا ما يقارن الناس بين أوضاعهم المالية الشخصية وأوضاع جيرانهم أو زملائهم في العمل أو أصدقائهم على أساس مساكنهم التي يقطنوها أو ما لديهم من مقتنيات. وعادة ما يستخدم الاقتصاديون المسوح الأسرية لقياس مدى التفاوت في الدخول. فتُجرى مقابلات مع طائفة كبيرة من الأسر لتحديد مصادر دخولها المختلفة (النقدية والنوعية) وأنماطها الاستهلاكية. ويُقسَّم مجموع دخل الأسرة بعد خصم الضرائب المباشرة المدفوعة (أو إجمالي استهلاك الأسرة) على عدد الأفراد المقيمين ضمن الأسرة الواحدة ثم يصنف جميع المشمولين في المسح في مراتب، من الأفقر إلى الأغنى، وفقا للدخل الأسري للفرد. ويتيح لنا هذا الأسلوب حساب ما يطلق عليه الاقتصاديون اسم "مُعامل جيني" (راجع الإطار 1).

 

الإطار 1: إخراج "الجيني" من القمقم

معامل جيني هو أكثر مقاييس عدم المساواة انتشارا. ويتراوح من الناحية النظرية بين صفر، عندما يحصل كل فرد في المجتمع على نفس المقدار تماما من الدخل، و100 (أو 1) عندما يحصل فرد واحد في المجتمع على الدخل كله. ما هي قيم معامل جيني "العادية" أو "المعتادة" أو "المحبذة"؟ تتراوح قيمة معامل جيني في البلدان التي تتمتع بالعدالة نسبيا – كالسويد وكندا، على سبيل المثال – بين 25 و35 نقطة. لكن غالبية البلدان تتركز حول 40 نقطة في معامل جيني. واليوم، تصل قيمة معامل جيني في الولايات المتحدة والصين وروسيا في حدود الشريحتين المنخفضة والمتوسطة من الأربعينات. ويتراوح معامل جيني في معظم بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية في حدود الشريحة العليا من الخمسينات، وفي بعض الحالات والفترات الزمنية الاستثنائية يمكن أن يصل معامل جيني إلى الشريحة الدنيا من الستينات. ولا توجد حالات مؤكدة ومستمرة لبلدان تجاوز فيها معامل جيني هذه الحدود. وبالتالي فإن النطاق الفعلي لمستوى عدم المساواة القُطري يتراوح بين 25 وحوالي 60 نقطة. أما التفاوت العالمي (بين جميع شعوب العالم) فهو خارج هذا النطاق، عند 70 نقطة تقريبا (راجع الرسم البياني 1).

        ورغم أن المسوح الأسرية هي أفضل أدوات لتقييم الدخول وما تتسم به من طابع متغير، فإنها ليست بالأدوات المثالية. فالحد الأعلى للتوزيع قد يكون "مختصرا"، حيث قد يرفض الأغنياء حقا المشاركة في المسوح الأسرية أو يفصحون عن مستويات دخول أقل من الواقع. ولا توجد أسباب واضحة لمثل هذا التهرب، نظرا للسرية التي تكتنف المسوح الأسرية. لكن شبهة "اختصار الحد الأعلى" أدى إلى إجراء مجموعة من الدراسات الأكاديمية مؤخرا واستخدمت فيها بيانات المالية العامة – البيانات المبلغة عن دخل الأغنياء قبل الضريبة – لتقدير نصيب أغنى 1% (أو 0.1%) من الأفراد من الدخل. ويتمثل الافتراض هنا في صعوبة تهرب الأغنياء من السلطات الضريبية مقارنة بالعدادين القائمين على المسوح، وأنهم قد يكونوا أكثر صدقا عند التعامل مع السلطات الضريبية. لكن في واقع الأمر، لم يظهر اختلاف يذكر بين النتائج في الولايات المتحدة التي استندت إلى المسوح والنتائج المستمدة من بيانات المالية العامة (دراسة “Burkhauser and others, 2009” ) رغم أن المسوح تنظر في توزيع الدخل بالكامل بينما تتفحص بيانات المالية العامة الجزء العلوي فقط من توزيع الدخل.

مفيد أم مضر؟

اتسع نطاق الرأي السائد في السنوات الأخيرة بأن تفاوت الأجور ضار بالنمو – أو أن تعزيز المساواة من شأنه المساعدة في استمرار النمو – (راجع مقال "المساواة والكفاءة" في هذا العدد من مجلة التمويل والتنمية). وكان الموقف المعكوس – أي أن عدم المساواة مفيد للنمو – هو السائد منذ زمن بين الاقتصاديين. والسبب الرئيسي في هذا التحول هو تزايد أهمية رأس المال البشري في التنمية. فعندما كان رأس المال المادي هو الأكثر أهمية، كانت المدخرات والاستثمارات من العناصر الرئيسية. وبالتالي كان من الضروري وجود مجموعة كبيرة من الأغنياء الذين يستطيعون ادخار جزء أكبر من دخلهم مقارنة بالفقراء واستثماره في رأس المال المادي.

وبينما أصبح رأس المال البشري في الوقت الحالي أكثر ندرة من الآلات، أصبح التعليم واسع النطاق هو مفتاح النمو. لكن توفير التعليم المتاح للجميع لن يتيسر إلا إذا كان المجتمع يتمتع بقدر نسبي من التكافؤ في توزيع الدخل. وإضافة إلى ذلك، فإن التعليم واسع النطاق لا يقتضي فقط توافر قدر نسبي من التكافؤ في توزيع الدخل، بل يقتضي كذلك تكاثره، في حلقة تعاقبية إيجابية، نظرا لأنه يقلص فجوات الدخل بين العمالة الماهرة وغير الماهرة.

إذن فالاقتصاديون في وقتنا الحالي يعارضون عدم المساواة أكثر من أي وقت مضى. فالمزايا المترتبة على الحد من عدم المساواة هي مزايا عملية – تسهيل النمو الاقتصادي – وأخلاقية – الحد من التفاوت غير المبرر في الدخل بين الرجل والمرأة، أو بين الأفراد المقيمين في مناطق مختلفة في البلد الواحد، أو بين شعوب البلاد المختلفة. وقد شهد رُبع القرن الماضي تغيرات متناقضة، ففي الوقت الذي زاد فيه العديد من أشكال عدم المساواة (لا سيما داخل فرادى البلدان) تراجعت أشكال أخرى.

عدم المساواة يواصل ارتفاعه

استمر ازدياد تفاوت الدخول – أو ظل خاملا على أحسن تقدير – في معظم البلدان منذ أوائل الثمانينات (دراسة “OECD, 2008” ).  وفي الغالب، يتعارض خذا الأمر تماما مع النظريتين الشائع استخدامهما للتنبؤ بعدم المساواة: وهما منحنى "كوزنتس" (Kuznets) ونظرية "هيكشر – أولين – صامويلسن" (HOS) (راجع الإطار 2).

الإطار 2 : على المستوي النظري

تذهب نظرية "منحنى كوزنتس" (Kuznets curve)، التي وضعها سايمون كوزنتس في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، إلى أن كل الناس تقريبا في مجتمعات ما قبل عصر الصناعة كانوا متساوين في الفقر ومن ثم كان عدم المساواة منخفضا. ثم أخذت مستويات عدم المساواة في الارتفاع مع انتقال الشعوب من قطاع الزراعة قليل الإنتاجية إلى القطاع الصناعي الأكثر إنتاجية، حيث يرتفع متوسط الدخل وتصبح الأجور أقل تماثلا. لكن مع نضج المجتمع وازدياد ثراؤه، تتقلص الفجوات بين المناطق الحضرية والريفية، وتؤدي معاشات المسنين وإعانات البطالة وغيرها من التحويلات الاجتماعية إلى تخفيض عدم المساواة. وبالتالي فإن منحنى كوزنتس يشبه حرف "U" المقلوب.

وتفترض نظرية "هيكشر – أولين – صامويلسن"المستمدة من التجارة الدولية أنه كلما زادت مشاركة البلدان الفقيرة في التجارة العالمية، فإنها غالبا ما تتخصص في إنتاج السلع التي تتمتع فيها بميزة تنافسية، وهي السلع التي تتطلب مهارات محدودة. ومن المفترض أن يترتب على ذلك زيادة الطلب في هذه البلدان على العمالة محدودة المهارات ورفع أجور العمال ذوي المهارات المحدودة مقارنة بأجور العمالة الماهرة. ومع استخدام نسبة أجور العمالة الماهرة إلى العمالة غير الماهرة كمتغير بديل لعدم المساواة، من المفترض أن ينخفض مستوى عدم المساواة. ويفترض أن يكون العكس صحيحا بالنسبة للبلدان الغنية: فمع زيادة صادراتها من السلع التي تتطلب مهارات عالية، سوف يرتفع مستوى عدم المساواة.

            وكان تفاوت الدخول في أغنى البلدان (وخاصة البلدان التي توفرت عنها بيانات وفيرة على المدى الطويل – أي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة) يتبع في البداية النمط الذي تبناه "كوزنتس" من حيث الارتفاع ثم الهبوط (الأمر الذي لا يدعو للدهشة، نظرا لأن هذه المشاهدات أوحت لكوزنتس بصياغة هذه الفرضية). وقد حدث التحول الهبوطي الكبير والطويل في مستوى عدم المساواة من ذروته في أواخر القرن التاسع عشر في المملكة المتحدة وفي العشرينات من القرن الماضي في الولايات المتحدة، ليبلغ أدنى درجاته في السبعينات.   

لكن منذ ذلك الحين أصبحت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة – وبالطبع معظم الاقتصادات المتقدمة – أكثر ثراء وأكثر عدم مساواة بكثير. ففي عام 2010، زاد الدخل الحقيقي للفرد في الولايات المتحدة بنسبة 65% عن مستواه المسجل في الثمانينات، وزاد بنسبة 77% في المملكة المتحدة. وعلى مدار نفس الفترة، ارتفع مستوى عدم المساواة في الولايات المتحدة من حوالي 35 نقطة إلى 40 نقطة أو أكثر في مقياس معامل جيني (راجع الرسم البياني 1)، وفي المملكة المتحدة من 30 نقطة إلى حوالي 37 نقطة. وتأتي هذه الزيادات كانعكاس لتحركات عكسية ملحوظة في توزيعات الدخل. وعلى وجه الإجمال، ارتفع مستوى عدم المساواة في 16 بلدا من أصل 20 بلدا من البلدان الغنية في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي خلال الفترة بين أواسط الثمانينات وأواسط الألفينات. ومن شأن هذه المصادفة التي اقترن فيها ارتفاع متوسط الدخل بارتفاع عدم المساواة في الاقتصادات الناضجة أن تثير دهشة كوزنيتس بلا شك، مثلما أثارت دهشة العديد من الاقتصاديين.

وقد ارتفع مستوى عدم المساواة كذلك في الصين، ذلك البلد الفقير الذي يتمتع بميزة نسبية في المنتجات كثيفة الاعتماد على العمالة غير الماهرة، والذي قفزت فيه نسبة التجارة إلى إجمالي الناتج المحلي من حوالي 20% إلى أكثر من 60% في عام 2008. وتتنبأ نظرية "هيكشر – أولين – صامويلسن" حول العولمة بأن مستوى عدم المساواة ينخفض مع ارتفاع أجور العمالة ذات المهارات المحدودة مقارنة بالعمالة الماهرة. غير أنه معامل جيني للصين، في واقع الأمر، سجل ارتفاعا من أقل من 30 نقطة في عام 1980 إلى حوالي 45 نقطة في وقتنا الحالي. ومرة أخرى نجد أن الحقائق تدحض النظريات.     

أكثر ثراء في البلدان الغنية

ما السبب في عدم المساواة؟ يذهب بعض الاقتصاديين إلى أن التطور التكنولوجي في البلدان الغنية، والذي ينتج عنه تزايد الطلب على العمالة المتعلمة تعليما عاليا، هو السبب في مواصلة ارتفاع عدم المساواة مرة أخرى. فلا تزال المجتمعات غير قادرة على توفير العمالة المتعلمة تعليما عاليا بالأعداد اللازمة في الاقتصاد الجديد مما أدى إلى ارتفاع أجور هذه الفئة مقارنة بنظرائها من العمالة الأقل مهارة. ووفقا لما ذكره الاقتصادي الهولندي الراحل (أول من فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد) "يان تنبيرغن" (Jan Tinbergen) فإن عدم المساواة ناتج عن السباق بين التكنولوجيا والتعليم. ورغم أن نتيجة هذا السباق جاءت في صالح العمالة الأقل مهارة على مدار العقود الأولى من القرن العشرين، فإن متطلبات الثورة التكنولوجية رجحت مرة أخرى كفة العمالة الماهرة.

وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، توصلت دراسة “Goldin and Katz (2008)” إلى أن المعروض من العمالة الماهرة ظل ثابتا نسبيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة – حيث توقف متوسط السنوات الدراسية عند أكثر قليلا من 12 سنة – وتذهب الدراسة إلى أن ذلك الأمر يفسر على الأقل جانبا من زيادة عدم المساواة في الولايات المتحدة.

وتبدو هذه النتيجة معقولة، وإن كانت مجرد تحصيل حاصل إلى حد ما، لأننا غير قادرين على إجراء قياس مباشر لمدى تفضيل التقدم التكنولوجي للعمالة الماهرة. ولا يسعنا إلا افتراض مدى قوته من خلال حجم الفجوة بين أجور العمالة الماهرة وغير الماهرة. لكن ربما تكون هناك قوة أخرى منفصلة تماما – مثل تراجع فعالية الاتحادات العمالية – هي المسؤولة واقعيا عن اتساع فجوة الأجور بين العمالة الماهرة وغير الماهرة.  

            كذلك يقوم الإطار المؤسسي للبلد المعني بدور في صياغة عدم المساواة. فالحكومات يمكنها استخدام الضرائب المرتفعة والتحويلات الاجتماعية لإعادة توزيع جانب من الدخول المرتفعة التي اكتسبتها العمالة الماهرة. وزيادة فعالية إعادة التوزيع في أوروبا القارية تفسر ارتفاع مستوى عدم المساواة بدرجة أقل كثيرا مقارنة بالبلدان الناطقة باللغة الإنجليزية (دراسة “Piketty and Saez, 2006” ). ففي عام 2005، على سبيل المثال، أدت التحويلات الاجتماعية (باستثناء المعاشات الحكومية) والضرائب المباشرة إلى خفض قيمة معامل جيني في ألمانيا بواقع 9 نقاط وبواقع 6 نقاط فقط في الولايات المتحدة.

وقد يرجع رفض حكومة ما اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحد من عدم المساواة إلى رؤيتها بأن إعادة التوزيع فيها إهدار للموارد وضارة بحوافز السوق (انطلاقا من تبنيها الرأي القائل بوجود مفاضلة قوية بين المساواة والنمو). لكن الإخفاق في إعادة توزيع الدخل ربما يرجع كذلك إلى الواقع السياسي في البلد المعني – اكتساب الأغنياء قدر غير تناسبي من النفوذ السياسي لأنهم أكثر نشاطا على الساحة السياسية ويقدمون مساهمات أكبر للساسة مقارنة بنظرائهم الأقل ثراء.

وتفترض نماذج الاقتصاد السياسي التي تتعامل مع عدم المساواة في الآونة الأخيرة أن "صاحب الصوت الانتخابي الحاسم" – الذي تؤدي أفضلياته إلى ترجيح كفة اتخاذ القرار في اتجاه أو آخر – يكون عادة أكثر ثراء من "صاحب الصوت الاننتخابي متوسط الدخل". وبالتالي تتوافق القرارات السياسية أكثر مع أفضليات الأغنياء. وفي هذا التحليل نجد أن النظم السياسية قد اقتربت أكثر من نموذج "دولار واحد - صوت واحد" عنها من النموذج التقليدي "شخص واحد - صوت واحد" (دراسة “Karabarbounis, 2011” ).

وهناك تفسير آخر لزيادة عدم المساواة وهو استمرار تغير الأعراف الاجتماعية. ففي الماضي، كان المجتمع يستاء من ظهور فجوات ضخمة في الأجور بين رئيس شركة، مثلا، والعاملين فيها. والآن توجد فجوات ضخمة ولا يبدو أنها أصبحت مقبولة فحسب بل صارت محبذة أيضا (دراسة “Levy and Temin, 2007” ). ورغم أن البيانات تؤكد اتساع هذه الفجوة، فمن الصعب التحديد على وجه الدقة أي الأعراف الاجتماعية التي تغيرت وأسباب ذلك.

كذلك يلقى اللوم على العولمة باعتبارها سببا في تزايد عدم المساواة في بلدان العالم الغنية. فالتخصص في الصادرات التي تتطلب مهارات عالية يؤدي إلى تزايد اتساع الفجوة بين أجور العمالة الماهرة وغير الماهرة. وعلاوة على ذلك، فإن التعهيد والواردات الرخيصة التي تتطلب مهارات محدودة يتسببان أيضا في تخفيض الأجور أو زيادة معدلات البطالة بين العمالة محدودة أو متوسطة المهارة – مما يزيد من تفاقم أوضاع عدم المساواة.     

ومن المرجح أن التفسيرات الأربعة – التقدم التكنولوجي، والتغيرات المؤسسية، والأعراف الاجتماعية المتغيرة، والعولمة – كان لها جميعا دور بشكل أو آخر بارتفاع عدم المساواة في الاقتصادات المتقدمة. لكن حتى إذا كانت القوى غير الشخصية كالتكنولوجيا أو العولمة هي السبب الأساسي، فلا يزال التدخل الحكومي قادرا على كبح جماح عدم المساواة.  

اتساع الفجوات في الأسواق الصاعدة

لا يختلف الأمر كثيرا في البلدان النامية. وحتى مع ما تشكله الولايات المتحدة - أغنى بلد كبير في العالم – من مثال واضح على استمرار ارتفاع عدم المساواة، فإن الصين تأتي على الطرف المقابل تقريبا من الطيف الاقتصادي والسياسي. فقد كانت الصين (ولا تزال إلى حد بعيد) بلدا فقيرا وكانت قد انتقلت منذ أوائل الثمانينات من كونها بلد يتمتع بقدر كبير من الاكتفاء الذاتي إلى بلد منفتح بدرجة كبيرة على التجارة الدولية. وكانت الصين قبل الإصلاحات التي بدأت في عام 1978 بلدا فقيرا بصفة عامة، حيث كانت قيمة معامل جيني فيها أقل من 30 نقطة، لكن مع نمو اقتصادها في السنوات التي أعقبت عام 1978، ارتفع مستوى عدم المساواة فيها ارتفاعا حادا متجاوزا المستوى السائد في الولايات المتحدة (راجع الرسم البياني 2). وقد زادت مستويات عدم المساواة بكافة أشكالها. واتسعت الفجوة في الوقت الحالي بين متوسط الدخول في المناطق الحضرية والريفية متجاوزة نسبة 3 إلى 1 (مقارنة، على سبيل المثال، بنسبة 2 إلى 1 في الهند). كذلك اتسعت الفجوات فيما بين الأقاليم مع ازدياد سرعة النمو في المناطق الساحلية، التي كانت أكثر ثراء مبدئيا، مقارنة بالمناطق الداخلية. وحدثت زيادة مفاجئة في تفاوت الأجور، كما زادت الدخول property and entrepreneurial incomes – التي كانت دائما الأكثر تفاوتا في التوزيع، ولم يكن هناك من يسمع بها في الصين قبل الإصلاحات – حتى أصبحت أكثر وضوحا.

لكن التجربة الصينية لا تتوافق حتى الآن مع النمط الذي تبناه "كوزنتس": فالصين بلد فقير في مراحل تطوره المبكرة ومن المرجح أن يشهد تزايدا في عدم المساواة. وإذا ما استمرت الصين على المسار المتنبأ به في نظرية كوزنتس، يمكننا أن نتوقع انخفاض عدم المساواة خلال السنوات المقبلة. وقد يتحقق هذا الأمر إذا قدمت الحكومة إعانات الضمان الاجتماعي لعدد كبير من أفراد الشعب (خارج القطاع الحكومي)، أو إذا استحدثت نظاما لإعانات البطالة وحتى إذا أمكنها وضع نظام يضمن التوظيف في المناطق الريفية – كما فعلت الهند مؤخرا. وقد يتحقق هذا الأمر أيضا مع اتساع نطاق الرخاء في مناطق الصين الساحلية ليمتد إلى المناطق الوسطى والغربية. إن عدم المساواة ليس نتاجا للقوى غير الشخصية وحدها؛ ومن ثم فإنه يتوسع عندما يسمح المجتمع بذلك ويمكن الحد منه عن طريق السياسات الحكومية الواعية.

تحولات جذرية

شهدت بلدان ما بعد الحكم الشيوعي، مع استثناءات قليلة، أكثر الزيادات حدة في مستوى عدم المساواة. ففي أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينات، ارتفع مستوى عدم المساواة في روسيا بسرعة لم يسبق تسجيلها في أي من بلدان العالم. وبينما ارتفع مستوى عدم المساواة في الولايات المتحدة بنحو ثُلث نقطة سنويا على مقياس جيني خلال الفترة بين عامي 1980 و1995، ارتفعت قيمة معامل جيني في روسيا، خلال العقد الذي أعقب نهاية الاتحاد السوفيتي، بثلاثة أضعاف هذه الوتيرة. وفي نفس الوقت، انخفض متوسط الدخل الحقيقي في روسيا انخفاضا حادا – مما أوجد مجموعة هائلة من الفقراء حديثي العهد.       
      
وتكمن القوة الأساسية وراء زيادة عدم المساواة في بلدان الاتحاد السوفيتي السابق في عملية الخصخصة التي تركت قدرا ضخما من الأصول، التي كانت فيما سبق جزءا من الدولة السوفيتية، بين أيدي المقربين من السلطة السياسية (حكم القلة) وأحدثت انقساما كبيرا بين صفوف العاملين في القطاع الحكومي: أي بين الذين ظلوا محتفظين بوظائفهم وحتى بعض ممن انتفعوا من الأوضاع، والذين أصبحوا عاطلين، والذين انخفضت دخولهم بشدة (دراسة “Milanovic and Ersado” ، تصدر قريبا). وانهارت كذلك شبكات الأمان الاجتماعي، التي كانت توفرها الشركات في أغلب الأحيان. ومع نهاية التسعينات من القرن الماضي، توقف نمو عدم المساواة، وظل مستوى عدم المساواة في روسيا أعلى قليلا من المستوى السائد في الولايات المتحدة – أي عند مستوى مماثل لذلك السائد في الصين.

وزاد عدم المساواة أيضا في بلدان أخرى من بلدان ما بعد الحكم الشيوعي، وإن لم يكن بنفس قدر الزيادة المشاهدة في روسيا. ففي العديد من بلدان أوروبا الوسطى (سلوفينيا والجمهورية التشيكية والجمهورية السلوفاكية) ظل مستوى عدم المساواة الجديد، وفقا لمعايير اقتصادات السوق الحالية، منخفضا نسبيا. ويرجع السبب في ذلك إلى دخول هذه البلدان مرحلة التحول إلى ما بعد الحكم الشيوعي بدرجات عالية من التوزيع العادل للدخل، ولم تتسبب الزيادات الكبيرة حتى في وضعها خارج المستويات التي تعتبرها أوروبا القارية مستويات عادية.

استثناءات لاتينية عن القاعدة

وفي المقابل، شهدت أهم بلدان أمريكا اللاتينية انخفاضا مستمرا في عدم المساواة على مدار العقود الماضية (راجع دراسة “Gasparini, Cruces, and Tornarolli, 2011” ؛ والمقال بعنوان "توزيع الثروة" في عدد مارس 2011 من مجلة التمويل والتنمية). وكان الانخفاض كبيرا بصفة خاصة في البرازيل، التي ظلت على مدار عقود بمثابة المثال التقليدي لبلد يتسم بارتفاع مستوى عدم المساواة. فقد انخفض معامل جيني في البرازيل من حدود الستينات المنخفضة في عام 2000 إلى أقل من 57 نقطة تقريبا في الوقت الراهن – وهو فرق مدهش نظرا لمقدار الدخول النسبية التي يتعين تغييرها لإحداث انخفاض أو ارتفاع بمقدار نقطة واحدة في معامل جيني، وسرعة حدوث هذا التغير، وطبيعته المنفردة، مقارنة ببقية بلدان العالم (راجع الرسمين البيانيين 2 و3). كذلك انخفضت مستويات عدم المساواة في كل من المكسيك والأرجنتين.

وغالبا ما تُعزى التحسينات لبرامج الدعم الاجتماعي كبرنامج "فرص" (Oportunidades) في المكسيك وبرنامج "مخصصات الأسر" (Bolsa Familia) في البرازيل. غير أن هذه التحسينات كانت أكبر كثيرا من أن يقتصر تفسيرها على البرامج وحدها، والتي تتسم بحجمها المحدود جدا من حيث إجمالي الناتج المحلي (دراسة “Soares and others, 2007” ). وكانت التغيرات المشاهدة في البرازيل تُعزى كذلك لزيادة فرص الحصول على التعليم، مما أدى وفقا لمعايير "تنبيرغن" إلى زيادة المعروض من العمالة الماهرة. لكن حتى في ظل هذه التحسينات، لا تزال بلدان أمريكا اللاتينية تواجه بعض أعلى مستويات عدم المساواة في العالم. ولا تزال البرازيل مصنفة ضمن أقل خمسة بلدان في العالم تحقيقا للمساواة.

حول العالم

إذا كان عدم المساواة داخل معظم بلدان العالم قد زاد أو ظل ثابتا على مدار الثلاثين عاما الماضية، فهل يعنى ذلك بالضرورة ازدياد التفاوت العالمي أيضا؟ إن الصلة هنا ليست بهذه البساطة. فالتفاوت العالمي ليس نتاجا لعدم المساواة داخل فرادى البلدان فحسب، وإنما هو نتيجة الفجوات أيضا بين نصيب دخل الفرد في البلدان المختلفة، وهو يتأثر بتعداد السكان وحجم الدخل في البلدان المختلفة. فالصين مثلا ستؤثر على مستوى التفاوت العالمي أكثر من لكسمبرغ. ولتحديد طبيعة ما حدث لمستويات عدم المساواة بين جميع شعوب العالم، يجب علينا أن ننظر في مسارين متعارضين: أن مواصلة ارتفاع عدم المساواة داخل كل بلد على حدة يزيد من التفاوت العالمي، وإن كانت معدلات نمو الدخل الحقيقي المرتفعة في البلدان الفقيرة، لا سيما في البلدان الضخمة كالصين والهند، سوف تحد منه.

وتستمد البيانات المستخدمة في حساب التفاوت العالمي من المسوح الأسرية في البلدان المختلفة، لكن ينبغي أن يكملها معامل لتعديل الأسعار من أجل تحويل الدخول الوطنية إلى "عملة" دولية تكون لها نفس القوة الشرائية في كافة بلدان العالم. ومعامل تعديل الأسعار هذا هو ما يعرف باسم دولار تعادل القوى الشرائية ($PPP) . ويتمثل الدور الأساسي لهذا المعامل في إجراء التعديل لمراعاة الفروق في مستويات الأسعار بين البلدان. وبوجه عام، تقل مستويات الأسعار في البلدان الأفقر عنها في البلدان الغنية، وعندما نجري التعديل لمراعاة القوى الشرائية، نجد أن الدخول في البلدان الفقيرة تكون أعلى مما لو كان قد تم قياسها بأسعار الصرف السائدة في السوق. وباستخدام أحدث البيانات المتاحة عن دولار تعادل القوى الشرائية، يمكننا إنشاء إطار لتوزيع الدخل على المستوى العالمي – مجموعة ضخمة من بيانات مسوح الأفراد المعدلة حسب أسعار الصرف المقيسة بتعادل القوى الشرائية – وكذلك قياس معامل جيني في جميع أنحاء العالم.

وبإنشاء هذا الإطار، على فترات زمنية تمتد لمدة خمس سنوات تقريبا في الفترة من 1988-2005، نجد أن التفاوت العالمي لا يبدو أنه يتبع اتجاها عاما واضحا، لكنه مرتفع بدرجة حادة (راجع الرسم البياني 3)، ويتأرجح في حدود 70 نقطة بمعامل جيني. ومن هذا الأمر يتبين أن قوى التقارب (المرجحة بتعداد السكان) بين البلدان (خاصة الصين والهند في محاولتهما للحاق ببلدان العالم الغني) تعاوض تقريبا قوى تزايد عدم المساواة داخل البلاد. لكن البيانات الأولية لعام 2008 – التي تعكس نمو الاقتصادات الصاعدة بوتيرة أسرع كثيرا من الاقتصادات المتقدمة مع استمراره في وقتنا الحالي – تشير إلى أن الفترة المقبلة قد تشهد انخفاض التفاوت العالمي.      
 
ويبدو أن التفاوت العالمي قد انخفض عن مستواه المرتفع البالغ 70 نقطة تقريبا بمعامل جيني في الفترة 1990-2005 ليتراوح بين 67-68 نقطة في الوقت الحاضر. ولا يزال هذا المستوى مرتفعا جدا عن مستوى عدم المساواة في أي بلد منفرد، وأعلى كثيرا من مستوى التفاوت العالمي منذ 50 أو 100 عام. لكن الانحناء الهبوطي المحتمل في عام 2008، نظرا لأن الوقت لا يزال مبكرا جدا على الأرجح للحديث عن حدوث انحدار – هو مؤشر جدير بالترحيب الكبير. وإذا ما تحقق له الاستمرار (ويعتمد هذا الأمر في جانب كبير منه على معدل نمو الصين في المستقبل)، سوف يكون ذلك بمثابة أول هبوط في التفاوت العالمي منذ أواسط القرن التاسع عشر و"الثورة الصناعية".

وبوسعنا إذن أن نعتبر "الثورة الصناعية" بمثابة "الانفجار العظيم" الذي وضع بعض البلدان على مسار الدخل المرتفع، وترك بلدانا أخرى عند مستويات دخل منخفضة للغاية. لكن مع انطلاق العملاقين – الهند والصين – إلى مستويات دخل أعلى كثيرا من مستويات الماضي، سوف يزداد متوسط دخل العالم وسيبدأ التفاوت العالمي في الانخفاض. ومن دواعي السخرية بعض الشيء أن هذه التطورات المتفائلة تتوافق مع وقوع الأزمة المالية العالمية، لكن الحساب البسيط لمعطيات الدخل وتعداد السكان يبين لنا أن "فصل قاطرة" النمو الاقتصادي بين اقتصادات العالم الغني واقتصادات الأسواق الصاعدة قد أسهم في تخفيض التفاوت العالمي.

وحتى في وسط الأزمة، وعلى الرغم من المظاهر البادية، فإن علم الاقتصاد لا يقتصر فقط على الأمور "القاتمة". فالحد من التفاوت العالمي، بقيادة معدلات النمو العالية وارتفاع مستويات المعيشة لاقتصادات مكتظة بالسكان ولا تزال فقيرة نسبيا مثل الصين والهند، يمثل تغيرا تاريخيا: فهو بمثابة انعكاس للرخاء الذي تحقق حديثا لملايين من البشر. ومع ازدياد التكامل بين بلدان العالم، فمن الممكن أن تتفوق الأهمية السياسية لخفض التفاوت العالمي على أهمية زيادة عدم المساواة داخل البلدان.

 

برانكو ميلانوفيتش هو الخبير الاقتصادي الأول في مجموعة بحوث التنمية في البنك الدولي، وأستاذ زائر في كلية السياسة العامة في جامعة ميريلاند، وهو مؤلف كتاب صدر مؤخرا بعنوان: "The Haves and the Have-Nots: A Brief and Idiosyncratic History of Global Inequality".

راسلونا

مجلة التمويل والتنمية ترحب بتعليقاتكم ورسائلكم الموجزة والتي تُنشر مجموعة منها في باب "رسائل إلى المحرر"، وقد تخضع لتعديلات تحريرية. يرجى توجيه الرسائل إلى عنوان البريد الإلكتروني التالي: fanddletters@imf.org