يواجه العالم العربي مرحلة شاقة نحو تحقيق الرخاء الاقتصادي. ففي معظم البلدان خارج مجلس التعاون الخليجي، تسود مستويات معيشية أدنى من المشاهَد لدى النظراء، وسيتطلب سد هذه الفجوة تحقيق زيادة كبيرة في النمو لعدة عقود قادمة. وفي البلدان التي تتمتع بمستويات معيشية مرتفعة بالفعل، يتمثل التحدي الراهن في تنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على الهيدروكربونات وتوفير ما يلزم من وظائف للقوى العاملة المتنامية.
غير أن توليد النمو والوظائف لن يكون أمرا سهلا في عالم تتعاظم في التحديات. فبالإضافة إلى تأثير انخفاض أسعار النفط، تتعرض البلدان المصدرة للنفط والبلدان المستوردة له، على السواء، لتيارات معاكسة كبيرة من جراء التباطؤ الاقتصادي في الأسواق الصاعدة الكبيرة واستشراء الصراعات. وإزاء انخفاض إيرادات النفط وانكماش الحيز المالي، ستواجه الحكومات صعوبة أكبر في مواصلة القيام بدور القاطرة الرئيسية للاقتصاد والملاذ الأول والأخير لتشغيل العمالة.
وفي هذا المناخ السائد، يصبح الحل الأهم أكثر من أي وقت مضى هو تمكين القطاع الخاص للقيام بدور أكبر في دفع عجلة الاقتصاد في المنطقة. فقد انخفض الاستثمار الخاص في العالم العربي أكثر من بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية الأخرى، تأثراً بعدم اليقين الاقتصادي والاضطراب السياسي والبيئة التنظيمية غير المواتية. وعلى سبيل المثال، ضَعُف أداء الاستثمار الأجنبي المباشر رغم التحسن الذي حققه في أوائل الألفينيات والذي يرجع في معظمه لارتفاع أسعار النفط. ومن ثم، يتطلب الأمر جهودا متضافرة لإحداث تحول ملموس في المشهد الراهن.
ما الذي يستطيع صناع السياسات القيام به، إذن؟ ستتفاوت الاستراتيجيات عبر بلدان العالم العربي، ولكن كما أوضحت دراستان جديدتان صادرتان عن الصندوق، يعتبر الحفاظ على أوضاع اقتصادية كلية مستقرة مطلبا أساسيا لتخفيف عدم اليقين الاقتصادي. وفي هذا السياق، يتعين إجراء إصلاحات لتحسين مناخ الأعمال. وكما ورد في إحدى الدراستين، وهي التي تحمل عنوانالاستثمار والنمو في العالم العربي، فقد حدث تقدم في هذا الصدد على مدار العقد الماضي – فأصبح المستثمرون يجدون بدء الأعمال الجديدة أسهل بكثير من ذي قبل في العديد من البلدان - ولكن المجال لا يزال متسعا لمزيد من التحسين. وينبغي أن تهدف الإصلاحات إلى تبسيط البيئة التنظيمية؛ وترشيد الإجراءات الإدارية؛ وتحسين فرص الحصول على التمويل بالنسبة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة؛ وتعزيز الحوكمة والمنافسة والشفافية (وهو ما يشمل المشتريات العامة)؛ وإقامة نظام للتدريب والتعليم قادر على تخريج عمالة مؤهلة للعمل في القطاع الخاص. وفي بعض البلدان، لا تزال قيود التجارة كبيرة، مما يعوق الاندماج في سلاسل القيمة العالمية ويحول دون تنويع الصادرات. وسيساعد إحراز تقدم أكبر على كل هذه الجبهات في تشجيع استثمارات القطاع الخاص ودعم ظهور قطاعات نشاط جديدة. وستكون هذه الإصلاحات بالغة الأثر في ضمان ازدهار الكثير من المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وليس فقط الشركات الكبيرة واسعة الصلات، بعيدا عن عبء البيروقراطية الحكومية.
وتنطبق هذه التوصيات المتعلقة بالسياسات على كل من البلدان المصدرة والمستوردة، لكنها تنطبق بصورة مضاعفة على البلدان المصدرة للنفط في المنعطف الراهن. فكما أوضحت دراسة الصندوق الثانية التي تحمل عنوان تنويع النشاط الاقتصادي في البلدان العربية المصدرة للنفط، أدت بيئة أسعار النفط المنخفضة الحالية إلى إضفاء طابع أكثر إلحاحا على الجهود التي بدأت منذ وقت طويل في هذه البلدان لتنويع النشاط الاقتصادي، مع الحد من الموارد المستخدمة لتحقيق هذا الهدف. فعلى صعيد الاقتصاد الكلي، مثلاً، أدى انخفاض أسعار النفط إلى زيادة حادة في عجز المالية العامة واحتياجات التمويل. وقد تحركت معظم البلدان المصدرة للنفط لمواجهة هذه الظروف بتخفيض الإنفاق، ولكن هذا التحرك سيتعين أن يستمر لسنوات طويلة قادمة. وسيكون من المهم أيضا تنفيذ استراتيجيات تضمن توافر التمويل الكافي للقطاع الخاص. ومن المنظور الهيكلي، هناك حاجة لإصلاحات تسمح للأعمال بتنويع النشاط في حدود الصناعات التي تنتمي إليها، وبالتوسع للانخراط في صناعات أخرى أيضا، وذلك بطرق منها توسيع نطاق المشاركة في سلاسل القيمة العالمية، وزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاع غير النفطي.
ومع وجود قطاع خاص أقوى، يصبح للقطاع العام دور مختلف أيضا. وعلى وجه التحديد، يجب أن يتطور دور القطاع العام ليعمل على تمكين القطاع الخاص أو تكميله، بدلا من التنافس معه، وهو ما يشمل الدور الحيوي الذي تؤديه الاستثمارات العامة في تمكين تنمية القطاع الخاص. وعلى خلفية تراجع الموارد المالية، من المهم أن تعمل البلدان على تقوية إدارة الإنفاق العام ورفع كفاءته، واستهداف مشروعات تحمل قيمة مضافة للاقتصاد، وحماية الموارد الموجهة للمشروعات الحيوية. وبالإضافة إلى ذلك، من شأن استعادة توازن المصروفات الحكومية بعيدا عن التركيز على الدعم وفاتورة الأجور أن تفسح حيزا ماليا أكبر، بل وتخلق حوافز ملموسة تدفع القطاع الخاص إلى التوسع. فأولاً، يؤدي اعتدال أجور القطاع العام إلى تيسير منافسة القطاع الخاص للقطاع العام على العمالة الماهرة. وثانياً، من شأن ذلك أن يخلق للباحثين عن فرص عمل حوافز تدفعهم للاستثمار في اكتساب المهارات المطلوبة في القطاع الخاص.
إن الإصلاحات التي تدعم استثمارات القطاع الخاص وترفع كفاءة القطاع العام وتعمل على تنويع النشاط بعيدا عن النفط ستستغرق وقتا حتى تؤتي ثمارها المرجوة. ولكن تأخير هذه الإصلاحات لن يؤدي إلا إلى زيادة صعوبة تنفيذها في المستقبل. ومن ثم يتعين تنفيذ هذه الإصلاحات الآن؛ فعليها يعتمد مستقبل الاقتصاد في العالم العربي.