صندوق النقد الدولي

Search

غير متساو = مدين

التمويل والتنمية --سبتمبر 2011 - المجلد 48 - العدد 3

مايكل كومهوف ورومين رانسيير Michael Kumhof and Romain Rancière

زيادة تفاوت الدخول في البلدان المتقدمة يرتبط بزيادة المديونية المحلية والخارجية

يشعر الاقتصاديون بالقلق منذ فترة طويلة بشأن الهوة المتنامية بين البلدان التي تقترض بكثافة على الصعيد الدولي وتلك التي تمنح القروض بسخاء، وهو ما يطلقون عليه اسم اختلال الحسابات الجارية العالمية، ولا تزال مشاعر القلق سائدة، لا سيما منذ بدء أزمة الاقتصاد العالمي في 2007، من احتمال تزعزع استقرار الأسواق العالمية إذا حدثت موجة مضاربة على عملات البلدان التي تتراكم لديها العجوزات الضخمة. غير أن ذلك لم يحدث حتى الآن على الأقل. والواقع أن أكثر البلدان استدانة، وهي الولايات المتحدة، يعتبرها المقرضون أساسا ملاذا آمنا.

لكن هناك بعد محليا آخر لتراكم الالتزامات الدولية. فالديون المحلية ترتفع أيضا ويمكن أن تصل إلى مستويات يتعذر الاستمرار في تحملها مما قد يؤدي إلى أزمات مالية محلية.

ويدور جدل حول السبب الذي يدعو الولايات المتحدة للمراكمة مثل هذه العجوزات المستمرة والضخمة في حسابها الجاري- الذي يغطي كل المعاملات الدولية غير الاستثمارية، بما في ذلك الصادرات والواردات، وتوزيعات الأرباح والفوائد، والتحويلات. ومن بين التفسيرات المطروحة انخفاض معدل الادخار المحلي، وارتفاع معدل الادخار الخارجي، وارتفاع الطلب على الأصول الأمريكية مرتفعة العائد من جانب البلدان سريعة النمو وإن كانت أقل تطورا من الناحية المالية، وزيادة حيازة الاحتياطيات الدولية في بلدان الأسواق الصاعدة لدوافع احترازية وتجارية على حد سواء، فضلا على العوامل الديمغرافية والإنتاجية، ودور الدولار الأمريكي كعملة الاحتياطي العالمي. لكن ظاهرة الارتفاع المزمن في عجز الحساب الجاري لا تقتصر على الولايات المتحدة فحسب؛ فيمكن مشاهدتها أيضا في عدد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى؛ خاصة في اقتصادات العالم الناطق باللغة الإنجليزية.

ومن ثم فإننا نتوسع في نطاق البحث الحالي امتدادا لما يتضمنه المقال الذي يحمل عنوان "الاستدانة على مطية عدم المساواة" (في عدد ديسمبر 2010 من مجلة التمويل والتنمية)، والذي لم يتناول سوى الولايات المتحدة، فنضيف بعدا يتعلق بالاقتصاد المفتوح. وقد توصلنا (انظر الرسم البياني 1) إلى أن الرابط بين تجارب بلدان العجز الرئيسية هو الزيادة الحادة في تفاوت الدخول على مدار العقود الأخيرة، مقيسا بحصة الدخل التي يحصل عليها أغنى 5% من سكان البلد نتيجة توزيع الدخل.

وقد أسهمت زيادة التفاوت في تدهور أرصدة المدخرات والاستثمارات الإجمالية في أغنى البلدان، حيث اقترضت الطبقتان الفقيرة والمتوسطة من الطبقة الغنية ومن مقرضين أجانب. ومن شأن هذا الأمر، إلى جانب العوامل الأخرى المذكورة أعلاه، أن يتسبب في عجز الحسابات الجارية.

وقد توصلنا بالفعل إلى أنه مع زيادة حصص دخل أغنى 5% من السكان بين أوائل الثمانينات من القرن الماضي ونهاية الألفية، تدهورت أرصدة الحساب الجاري. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، وجدنا أن زيادة قدرها 8.7 نقطة مئوية في حصة دخل أغنى 5% من السكان قد اقترنت بتدهور قدره 2.7 نقطة مئوية في نسبة الحساب الجاري إلى إجمالي الناتج المحلي.

وضع نموذج للحقائق

يمكن توضيح الروابط بين تفاوت الدخول وعجز الحسابات الجارية عن طريق وضع نموذج اقتصادي. وفي نموذجنا الذي يستند إلى التوسع في فكرة الاقتصاد المفتوح التي وردت في دراسة "Kumhof and Rancière (2010)"، تم تقسيم الأسر المعيشية إلى مجموعتين إحداهما تضم السكان أصحاب أعلى 5% من الدخل ("مجموعة الدخل الأعلى") وأخرى تضم السكان أصحاب أقل 95% من الدخل ("مجموعة الدخل الأدنى") في بلد متوسط الحجم يسهم بنسبة 5% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ويتم تحديد حصص الدخل المجمع عن طريق عملية تفاوض بين المجموعتين. ويفترض النموذج أن مجموعة الدخل الأعلى تشهد صدمة مواتية كبيرة ومستمرة في قوتها التفاوضية تزيد حصتها من الكعكة الاقتصادية على مدار فترة مبدئية قدرها 10 سنوات- مع حدوث انخفاض مقابل في حصة مجموعة الدخل الأدنى. (لا يتناول بحثنا سوى الآثار الاقتصادية الكلية لأعلى مستوى مشاهد من التفاوت؛ وتحدد الدراسات المتخصصة، حسبما تقصينا في مقالنا السابق، عددا من الأسباب المختلفة لهذه الظاهرة).

ولا تستمد مجموعة الدخل الأعلى الشعور بالرضا من الاستهلاك فحسب- فهناك حدود لما يمكن أن يستهلكه الشخص "الميسور"- لكنها تستمده أيضا من مراكمة الثروة، بما في ذلك الثروة المالية، مما يعني تقديم القروض لمجموعة الدخل الأدنى. ومن ثم، فإن جانبا من تحركات مجموعة الدخل الأعلى لمواجهة الزيادة الكبيرة في دخولها يتمثل في زيادة القروض التي تقدمها لمجموعة الدخل الأدنى. وبذلك يتاح لمجموعة الدخل الأدنى الاستمرار في استهلاك ناتج الاقتصاد حتى وإن كانت تحقق حصة أقل كثيرا من الدخل. وبالتالي، تتزامن الزيادة في المعروض الائتماني من مجموعة الدخل الأعلى مع الزيادة في الطلب على الائتمان من مجموعة الدخل الأدنى. ومن المفترض أن يزداد احتمال توقف مجموعة الدخل الأدنى عن السداد مع ازدياد مستوى الدين، الذي يتراكم مع الوقت، مما يؤدي إلى زيادة علاوات المخاطر.

ونتيجة لحدوث الصدمة، يبين نموذجنا حدوث انخفاض بنسبة 9% تقريبا في الأجور الحقيقية (مقارنة بالنمو الاتجاهي في الأجور الحقيقية)، وزيادة مبدئية في سعر الفائدة على القروض المحلية قدرها 80 نقطة أساس، وزيادة قدرها نحو 120 نقطة مئوية في نسبة الدين إلى الدخل في مجموعة الدخل الأقل (انظر الرسم البياني 2، الخط المتقطع).

وتحدث الزيادة في الدين على مدار عقود من انخفاض الدخول دون الاتجاه العام من جراء حدوث صدمة مستمرة. ففي الاقتصادات المفتوحة، نجد أن مهمة تمويل الطلب على الاقتراض من مجموعة الدخل الأدنى في أعقاب صدمة سلبية في الدخل تتقاسمها مجموعة الدخل الأعلى المحلية والأطراف الأجنبية. ومن ثم يصبح بإمكان مجموعة الدخل الأعلى استخدام جانبا أكبر من دخلها المرتفع في الاستثمار والاستهلاك في المصانع والآلات على المستوى المحلي مقارنة بما كان يمكن أن تحققه في الاقتصادات المغلقة. لكن النتيجة على المستوى الخارجي تتمثل في حدوث تدهور في الحساب الجاري، الذي يبلغ في ذروته ما يربو على 1% من إجمالي الناتج المحلي.

والواقع أن الزيادات في تفاوت الدخول تتبعها عادة تدخلات سياسية لرفع مستويات معيشة مجموعة الدخل الأدنى، التي يستمر دخلها الحقيقي في الركود. ولا يتحقق هذا بصفة عامة بمواجهة مباشرة مع مصادر عدم المساواة، كانخفاض القوة التفاوضية الجماعية لمجموعة الدخل الأدنى أو التحولات في الأعباء الضريبية من مجموعة الدخل الأعلى إلى مجموعة الدخل الأدنى، وإنما بتشجيع السياسات الرامية إلى خفض تكلفة القروض التي يتحملها الأفراد والمؤسسات المالية على حد سواء (دراسة "Rajan, 2010"). ومن بين هذه السياسات سياسات التحرير المالي على المستويين المحلي والدولي، وتفرض ضغوطا إضافية خافضة للحسابات الجارية.

ومثلما يتبين في عمليات المحاكاة في الرسم البياني 2 (الخط المصمت)، فإن انخفاضا في فروق العائد على معاملات الوساطة المالية يؤدي إلى انخفاض أكبر في أسعار الفائدة على القروض، مما يجذب مزيدا من موارد مجموعة الدخل الأعلى إلى الأصول المالية بدلا من الأصول المادية. وفي البداية يسمح هذا الأمر لمجموعة الدخل الأدنى بالاحتفاظ بمستوى استهلاك مرتفع. لكنه يعني في الأجل الطويل أن تقلل مجموعة الدخل الأعلى من استثماراتها في الأصول المادية كالمصانع والآلات، ومن ثم تشهد مجموعة الدخل الأدنى انخفاض الأجور الحقيقية بمرور الوقت. وفي الوقت نفسه، ترتفع نسب الدين إلى الدخل ارتفاعا كبيرا، كما ترتفع نسب العجز في الحسابات الجارية.

لا فائض في الإنصاف

باستخدام نفس الإطار النظري، استعرضنا كذلك السبب في احتمال تحسن الحسابات الجارية بصورة متزامنة في بلدان أخرى تشهد زيادة في عدم المساواة، مثل الصين. وكانت النتيجة التي توصلنا إليها، رغم ما يبدو في من مفارقة، أن زيادات تفاوت الدخول المحلية قد يترتب عليها كذلك تحقيق فوائض ضخمة في هذه البلدان، متجاوزة الاستجابة لزيادة الاقتراض في بلدان العجز.

وقد تحدث هذه الاستجابات المختلفة لعدم المساواة لدرجة تكون فيها الأسواق المالية في بلدان الفائض أقل نضجا وبالتالي لا تتيح الفرصة أمام الطبقتين الفقيرة والمتوسطة بالاقتراض لمواجهة انخفاض حصص إجمالي الدخل. ومن ثم فإن انخفاض الطلب المحلي يستلزم اعتماد نموذج للنمو موجه نحو التصدير، في حين ينتهي الأمر بالأثرياء المحليين إلى توظيف دخولهم الإضافية في أصول مالية أجنبية وليست محلية. وبناء عليه، فإن الاستجابة التي تقوم على رؤية قصيرة فيما يتعلق بالاختلالات العالمية تتمثل في الحد من هذه "العيوب المالية" في بلدان الفائض.

لكن إذا تم تحرير الإقراض بدون معالجة تفاوت الدخول الأساسي، فإن النتيجة ستكون مجرد زيادة المديونية داخل بلدان الفائض (فيما بين الأغنياء وباقي السكان)، وليس تجاه باقي العالم. وبعبارة أخرى ستحدث زيادة ذات طابع عالمي وليس إقليمي في مديونية الفقراء والطبقة المتوسطة على المستوى المحلي. ورغم أن ذلك من شأنه خفض الاختلالات المالية عبر الحدود، فإنه سيؤدي إلى تفاقم نسب الدين المحلي إلى الدخل ومن ثم زيادة مخاطر التعرض للأزمات. وعلى المدى الطويل، لا يوجد ببساطة سبيل لتحاشي معالجة مشكلة تفاوت الدخول معالجة مباشرة. فالتحرير المالي في بلدان الفائض يسمح بكسب الوقت، لكن على حساب مشكلة مديونية أكبر كثيرا في نهاية المطاف.

وهناك صعوبات كثيرة تكتنف العديد من خيارات السياسة الرامية إلى الحد من تفاوت الدخول. ومن هذه الصعوبات الضغوط الخافضة للأجور التي تصعب مقاومتها، بسبب المنافسة الدولية، وخطر تحويل اتجاه الاستثمارات إلى بلدان أخرى إذا ما تم تمويل تخفيضات ضرائب الدخل من العمل عن طريق تطبيق زيادات في ضرائب الدخل من رأس المال. وعلى صعيد الضرائب، قد تشمل الحلول فرض ضرائب تصاعدية بدرجة أكبر على دخل العمل الأمر الذي يترك معدلات الضريبة المتوسطة دون أن يمسها تغيير. وفي المقابل يمكن تمويل تخفيضات ضرائب الدخل من العمل على كل المستويات الضريبية من خلال زيادة الضرائب التي لا تشوه الحوافز الاقتصادية، بما في ذلك الضرائب المصممة على نحو ملائم على الأرباح من الاستثمارات في الأراضي والموارد الطبيعية والقطاع المالي. وبالنسبة لدعم القوة التفاوضية للعمال بصورة مباشرة، يتعين موازنة صعوبات القيام بذلك إزاء العواقب الفاجعة المحتملة لنشوء أزمة مالية وعينية أكثر عمقا، إذا استمرت الاتجاهات العامة الراهنة بالنسبة لمديونية الأسر المعيشية منخفضة ومتوسطة الدخل- على المستويين المحلي والدولي.

مايكل كومهوف هو نائب رئيس وحدة، ورومين رانسيير اقتصادي، وكلاهما يعملان في إدارة البحوث في صندوق النقد الدولي. ويستند هذا المقال إلى بحث المؤلفين مع كلير ليبارز (Claire Lebarz) طالبة الدارسات العليا في كلية الاقتصاد في باريس، وألكسندر ريختر (Alexander Richter) وناثانيال ثروكمورتون (Nathaniel Throckmorton)، من طلبة الدارسات العليا في جامعة إندايانا.

راسلونا

مجلة التمويل والتنمية ترحب بتعليقاتكم ورسائلكم الموجزة والتي تُنشر مجموعة منها في باب "رسائل إلى المحرر"، وقد تخضع لتعديلات تحريرية. يرجى توجيه الرسائل إلى عنوان البريد الإلكتروني التالي: fanddletters@imf.org