وطبقا لما ورد في تقرير القطاع الخارجي، يستمر توسع أرصدة الحسابات الجارية العالمية – وهي الحجم الكلي للعجوزات والفوائض عبر البلدان – للعام الثاني على التوالي. فبعد سنوات من التقلص، توسعت الأرصدة إلى 3% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 2020، وزاد هذا التوسع إلى 3,5% في العام الماضي، ومن المتوقع أن يزداد مجددا هذا العام.
وليست زيادة أرصدة الحسابات الجارية في حد ذاتها أمرا سلبيا بالضرورة. ولكن الأرصدة المفرطة عالميا – أي النسبة التي لا تبررها الفروق بين الأساسيات الاقتصادية للبلدان، مثل الخصائص الديمغرافية، ومستوى الدخل والنمو الممكن، والمرتكزات المرغوبة للسياسات، استنادا إلى منهجية الصندوق المعدلة – يمكن أن تشعل التوترات التجارية وتتسبب في فرض تدابير حمائية. ومن شأن هذا أن يشكل انتكاسة لجهود تقوية التعاون الاقتصادي الدولي، كما يمكن أن يزيد من مخاطر التحركات المربكة للعملات وتدفقات رأس المال.
آثار الجائحة في 2021
تسببت الجائحة في توسع أرصدة الحسابات الجارية العالمية، ولا تزال تُحْدِث تأثيرا غير متوازن على البلدان تبعا لعوامل مثل مدى كونها بلدانا مصدرة أو مستوردة للسياحة والسلع الطبية.
كذلك أدت الجائحة وإجراءات الإغلاق العام المرتبطة بها إلى تحويل الاستهلاك من الخدمات إلى السلع حيث خفض الناس من أسفارهم وإنفاقهم على الترفيه. وأدى ذلك أيضا إلى توسيع الأرصدة العالمية حيث قامت الاقتصادات المتقدمة ذات العجوزات بزيادة استيراد السلع من اقتصادات الأسواق الصاعدة ذات الفوائض. وفي عام 2021، تشير تقديراتنا إلى أن هذا التحول قد رفع عجز الولايات المتحدة بنسبة 0,4% من إجمالي الناتج المحلي وساهم في زيادة فائض الصين بنسبة 0,3% من إجمالي الناتج المحلي.
وبالإضافة إلى ذلك، حدثت زيادات في الاقتصادات ذات الفوائض، مثل الصين، نتيجة لزيادة شحنات السلع الطبية التي تدفقت في كثير من الأحيان إلى الولايات المتحدة والاقتصادات الأخرى ذات العجوزات. كذلك ساهم الارتفاع الحاد في تكاليف النقل في توسيع الأرصدة العالمية عام 2021.
الحرب وتشديد السياسات في 2022
أصبحت أسعار السلع الأولية الآن هي المحركات الكبرى للمراكز الخارجية، وأثّر صعود أسعار النفط في العام الماضي من مستوياتها المنخفضة أثناء الجائحة تأثيرا متباينا على البلدان المصدرة والمستوردة. وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر فبراير ليفاقم من طفرة أسعار الطاقة والغذاء والسلع الأولية الأخرى، مما وسع أرصدة الحسابات الجارية العالمية عن طريق زيادة الفوائض للبلدان المصدرة للسلع الأولية.
ويدفع تشديد السياسة النقدية تحركات العملات، حيث يقود التضخم المتصاعد عددا كبيرا من البنوك المركزية إلى التعجيل بوقف التحفيز النقدي. وقد أدى تعديل التوقعات بشأن وتيرة التشديد النقدي في الولايات المتحدة إلى إعادة مواءمة أسعار العملات بشكل كبير هذا العام، مما ساهم في التوسع المتوقع للأرصدة العالمية.
ولا تزال تدفقات رأس المال منقطعة عن الأسواق الصاعدة حتى الوقت الحالي من عام 2022، على أثر زيادة الاتجاه نحو تجنب المخاطر بسبب الحرب، مع زيادة التدفقات الخارجة في ظل تغير التوقعات بشأن تسارع وتيرة التشديد النقدي في الاقتصادات المتقدمة. وكانت التدفقات الخارجة من الأسواق الصاعدة كبيرة للغاية على أساس تراكمي، إذ اقتربت من 50 مليار دولار، وهو حجم مشابه للتدفقات الخارجة أثناء شهر مارس 2020 وإن كانت الوتيرة أبطأ.
وتشير نظرتنا المستقبلية للعام القادم وما بعده إلى انخفاض مطرد في أرصدة الحسابات الجارية العالمية مع تراجُع تأثيرات الجائحة والحرب، وإن كان هذا التوقع محفوف بقدر كبير من عدم اليقين. فمن الممكن أن يستمر توسع أرصدة الحسابات الجارية العالمية إذا استغرق الضبط المالي في البلدان التي تسجل عجزا في الحساب الجاري وقتا أطول من المتوقع. وبالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي ارتفاع سعر الدولار إلى توسيع عجز الحساب الجاري الأمريكي وزيادة أرصدة الحسابات الجارية العالمية.
ومن بين العوامل الأخرى التي قد تتسبب في توسع هذه الأرصدة طول أمد الحرب الذي يؤدي إلى إطالة أمد ارتفاع أسعار السلع الأولية، وتفاوت مستويات رفع أسعار الفائدة من جانب البنوك المركزية، واحتدام التوتر الجغرافي-السياسي بما يسببه من تشتت اقتصادي، مما يفضي إلى انقطاعات في سلاسل الإمداد، وربما يؤدي إلى إعادة ترتيب النظام النقدي الدولي.
ومن الممكن أن تؤدي زيادة تفتت النظام التجاري إما إلى زيادة الأرصدة العالمية أو نقصانها، تبعا لصورة التكتلات التجارية بعد إعادة تشكيلها. وأيا ما كان الحال، فإن من شأن ذلك أن يحد من عمليات نقل التكنولوجيا، ويقلص إمكانات النمو بقيادة الصادرات في البلدان منخفضة الدخل، ومن ثم يُحْدِث تآكلا واضحا في مكتسبات الرخاء التي حققتها العولمة.
أولويات السياسات
أضفت الحرب في أوكرانيا تعقيدات على المفاضلات القائمة التي يتعين على صناع السياسات الاختيار بينها، بما في ذلك الاختيار بين مكافحة التضخم وحماية التعافي الاقتصادي، وبين تقديم الدعم للمتضررين وإعادة بناء هوامش الأمان المالية. ويمثل التعاون متعدد الأطراف عاملا أساسيا في التعامل مع تحديات السياسات الناجمة عن الجائحة والحرب، بما في ذلك معالجة الأزمة الإنسانية.
وتختلف سياسات استعادة التوازن الخارجي باختلاف مركز كل اقتصاد واحتياجاته. فبالنسبة للاقتصادات التي تسجل حساباتها الجارية عجوزات أكبر من المستوى المبرَّر تعكس النقص الكبير في موارد ماليتها العامة، مثلما هو الحال في الولايات المتحدة، من الضروري تخفيض العجوزات الحكومية عن طريق الجمع بين زيادة الإيرادات وتخفيض الإنفاق.
وتختلف مسألة استعادة التوازن بالنسبة للبلدان ذات الفوائض المفرطة، مثل ألمانيا وهولندا، التي يمكن تخفيضها بتكثيف الإصلاحات المشجعة للاستثمار العام والخاص والمثبطة للادخار الخاص الزائد، بما في ذلك عن طريق التوسع في شبكات الأمان الاجتماعي في بعض الأسواق الصاعدة.
****
جيوفاني غانيللي يعمل اقتصاديا أول في إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي. وتتضمن تكليفاته السابقة توليه منصب نائب رئيس المكتب الإقليمي للصندوق المعني بآسيا والمحيط الهادئ؛ ورئيس بعثة الصندوق المعنية بساموا، واقتصادي أول مختص بماليزيا في إدارة آسيا والمحيط الهادئ. كذلك عمل في إدارة شؤون المالية العامة، والإدارة الأوروبية، ومعهد تنمية القدرات بالصندوق. وعلى مدار تاريخه الوظيفي، شارك في بعثات الصندوق إلى آسيا وإفريقيا وأوروبا. وتركز أبحاثه على سياسة المالية العامة والإصلاحات الهيكلية وقضايا القطاع الخارجي. وله دراسات منشورة في عدة دوريات علمية، بما في ذلك دورية "الاقتصاد الدولي" (International Economics)، و"رسائل الاقتصاد" (Economics Letters)، و"دورية الديناميكية والتحكم الاقتصاديين" (Journal of Economic Dynamics and Control).
باو رابانال يشغل منصب نائب رئيس قسم في إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي، ويعمل على "تقرير القطاع الخارجي" منذ عام 2018. وقد التحق بالصندوق في عام 2002 وسبق له العمل في إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية، وإدارة نصف الكرة الغربي، وإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ومعهد تنمية القدرات بالصندوق. والسيد رابانال حاصل على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة بومبيو فابرا (Universitat Pompeu Fabra) في برشلونة، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة نيويورك. وتتضمن اهتماماته البحثية السياسة النقدية، والسياسات الاحترازية الكلية، والاقتصاد الكلي في الاقتصاد المفتوح، وتحليل مواطن التعرض للمخاطر الخارجية.
نيام شيريدان تشغل منصب نائب رئيس قسم السياسات الخارجية في إدارة الاستراتيجيات والسياسات والمراجعة بصندوق النقد الدولي، حيث تقود عمل الصندوق المعني بكل جوانب تقييمات القطاع الخارجي، بما في ذلك نماذج التقييم المبسط للرصيد الخارجي وتقييمات كفاية الاحتياطيات. ومنذ التحاقها بالصندوق، عملت على مجموعة متنوعة من الاقتصادات (أستراليا وإستونيا وفيجي وماليزيا ومولدوفا وسنغافورة)، كما عملت رئيسا لبعثة الصندوق المعنية بساموا. والسيدة شيريدان حاصلة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة جونز هوبكنز ودرجة الماجستير في علم الاقتصاد من كلية دبلن الجامعية.