معالجة الجدل الدائر حول الأثر الاقتصادي للهجرة

9 يناير 2017

على مدار العام الماضي، ظللنا نفكر في أفضل السبل للرد على تصاعد الانتقادات ضد العولمة. فرغم منافعها الكثيرة للأغنياء والفقراء على حد سواء، تسببت آثارها الجانبية في موجة حادة من الهجوم السياسي المضاد، وهو ما أجبر صناع السياسات على طرح تساؤلات حول كيفية معالجة هذا الاستياء وما الذي يمكن القيام به لمساعدة من أغفلتهم مسيرة الاندماج الاقتصادي.

ونواجه الآن معضلة مماثلة تطرحها الهجرة، وهي قضية أصبحت في بؤرة الاهتمام هنا في أوروبا مع تصاعد الشد والجذب بشأن تدفق المهاجرين من أوروبا الشرقية منذ وقت طويل وموجة الهجرة الجديدة من الشرق الأوسط وإفريقيا، وهو ما يشمل أعدادا كبيرة من اللاجئين.

ويقف كل من السياسة والعلم على طرفي نقيض بالنسبة للهجرة. فلطالما تجادل العلماء حول التكاليف والمنافع الاقتصادية للهجرة، ولا تزال بينهم بعض الخلافات في هذا الصدد، لكن آراءهم توافقت على أنها تحقق منافع - وهي نقطة سأعود إليها بعد قليل.

لكن التيار الشعبوي الذي بدأ يتصاعد منذ بضع سنوات في الولايات المتحدة وأوروبا والذي أصدر حكما سلبيا ضد العولمة كان حكمه قاسيا أيضا على الهجرة. وعلى مدار العام الماضي، أطاح هذا التيار بالقادة في بضعة بلدان وبدأ يهدد آخرين.

وعلى غرار العولمة، ينبغي أن يتوقف الاقتصاديون وصناع السياسات للتفكير في السبب وراء ما يبدو من رفض الرأي العام لنتائج الأبحاث الإيجابية بشأن الهجرة. فبشيء من إعادة النظر، يُرجح أن نتمكن من تعميق فهمنا للقضايا والتحليلات، وتحسين تحرك السياسات لمواجهتها.

وهناك ثلاثة تفسيرات ممكنة لقوة رد الفعل الشعبي. أولا، قد تكون المنافع الاقتصادية للهجرة أقل قيمة عند الناس لأنهم لا يحبون التغيير الاجتماعي والثقافي الذي يخشون أن يأتي بالضرورة مع الهجرة الداخلة إلى بلادهم. ثانيا، قد لا يكونوا مدركين للمنافع الحقيقية التي أوضح الاقتصاديون وجودها. أو ثالثا، قد لا يكون الاقتصاديون قد اكتشفوا كل الجوانب ذات الصلة. وربما يكون هناك شيء من الحقيقة في التفسيرات الثلاثة.

وتخبرنا مسوح الهجرة أن الخوف من الجريمة والخطر على الثقافة أو الهوية الوطنية يظهران كعاملين قويين مؤثرين على الرأي العام. ويخبرنا المتخصصون في العلوم السياسية أن رد الفعل تجاه هذه الأخطار المتصورة يعبر عن شعور عميق بعدم الأمان. وعلينا نحن الاقتصاديون ألا ننتقص من أهمية هذه العوامل. وفي نفس الوقت، ليس أمامنا طريق سهل لإدراجها فيما نجريه من تحليلات.  

فما الذي نستطيع قوله عن الاقتصاد؟

ينبع الرأي الاقتصادي القائل بضرر الهجرة من ملاحظة بسيطة في الأساس: أن زيادة عرض العمالة يفرض ضغوطا خافضة للأجور، مما يضر بالعمالة المحلية – على الأقل أصحاب المستويات المهارية المماثلة. وغالبا ما يرتكز النفور الشعبي من الهجرة على هذه الرؤية، وهو ما تسميه الأدبيات الاقتصادية في الأساس نظرية التوازن الجزئي. فالناس يرون المهاجرين وهم يتوافدون على مجتمعاتهم، ويعتقدون أنهم السبب في تدهور الآفاق الوظيفية المتوقعة لهم ولغيرهم في تلك المجتمعات. وكثير منهم لديه خبرات محددة في سوق العمل تعزز لديه هذه الرؤية.

ورد الاقتصاديين على هذه الرؤية هو أن نظرية عرض العمالة تتطلب ثبات كل العوامل الأخرى، وهو غير واقع بالتأكيد. فمعظم الآراء التي تشير إلى مزايا الهجرة تشير إلى واحد أو أكثر من العوامل غير الثابتة؛ وبعبارة أخرى، تشير إلى ما يمكن أن نسميه التوازن العام والآثار الديناميكية. ومن هذه العوامل:

  • قد تكون العمالة المهاجرة مكملاً للعمالة المحلية وليست بديلاً لها. 
  • ومن المؤكد أن المهاجرين ينفقون جانبا كبيرا مما يكسبون وبالتالي فهم يرفعون الطلب، بما في ذلك الطلب المشتق على العمالة، ومن ثم يساهمون في زيادة الأجور وخلق وظائف جديدة.  
  • وفي نهاية المطاف، كل منشآت الأعمال تستثمر في زيادة رأس المال لدى المهاجرين، ورفع الإنتاجية، والحد من الضغوط الخافضة للأجور.  
  • وسيعاد تدريب العمالة الوطنية لتشغل وظائف تدر دخلا أكبر، أو تنتقل إلى أماكن تتمتع بأسواق عمل أقوى.

وقد حددت الأدبيات كثيرا من مثل هذه العوامل التي يمكن، نظرياً، أن تحقق منافع، والتي أثبتت، عملياً، أنها تحقق منافع بالفعل.

وبغض النظر عن الاتفاق العام بين الاقتصاديين حول منافع الهجرة الداخلة، فإن نظرية التوازن الجزئي شائعة لدى الرأي العام. ولا يمثل هذا الشيوع رد فعل متفرد أو منعزل بالكلية. بل إن كثيرا من الشكوك المحيطة بالهجرة تحمل في طياتها شبها لافتاً بالآراء المشككة في مزايا التجارة. ومن يحاولون منا تكوين فهم لاقتصاديات الهجرة بغية الخروج باقتراحات للسياسات ذات الصلة عليهم التفكير في الرؤى المتطابقة بشأن الهجرة والتجارة.

فأولا، على غرار التجارة، حتى إذا كانت الهجرة الداخلة تحقق منافع صافية لاقتصاد ما، فقد يترتب عليها فائزون وخاسرون.  

ثانيا، مثلما تؤدي التجارة بمرور الوقت إلى التخصص وفقا للميزة النسبية، فقد يستغرق الأمر وقتا حتى تترسخ الآثار الديناميكية للهجرة، لأنها تعتمد على تكيف منشآت الأعمال. ومن ثم فقد يكون الخاسرون كثر لفترة من الوقت.   

ثالثا، مثلما هو الحال مع ظاهرة تحويل التجارة، قد تحتاج العمالة المحلية إلى تعديل أدواتها أو الانتقال إلى موقع آخر لكي تصبح من المستفيدين بالهجرة.

رابعا، وربما الأكثر ارتباطا بالوضع الراهن حيث نشهد تغيرات كثيرة في الاقتصاد العالمي، أن العمالة قد لا تكون قادرة على تمييز التغيير المسؤول عن تراجع مستوياتها المعيشية. وقد توصلنا إلى المفارقة القائمة في هذا الصدد؛ فبينما نجد أن الجدل السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا يلقي على عولمة التجارة بكثير من اللوم لما نشهده من تباطؤ في نمو الأجور وتزايد في فقدان الوظائف، نظن أن كثيرا من هذا الزخم يأتي في الحقيقة من الآثار الشديدة الباقية منذ الأزمة المالية العالمية ومن الحوافز المستمرة للتغير التكنولوجي الموفر للعمالة.

ومن ثم فرسالتي هي كالتالي: إن للهجرة منافع اقتصادية مثبتة. ولكن مثلما هو الحال في النقاش الأوسع حول العولمة، علينا أن ندرك أيضا ضرورة بذل جهد أكبر فيما يتعلق بالهجرة، ولا سيما لتكوين صورة أوضح عمن قد يتضرر منها – وكيف يمكننا تخفيف هذا الأثر.

وإذ نستعرض ما استخلصناه من الأبحاث والتجارب المتعلقة بالهجرة، علينا توخي الحرص في تحديد ما يصدق في النظرية، وما يبدو أنه يصدق في الواقع العملي، وما مدى ثقتنا فيما نستخلصه من استنتاجات. وكما حدث في المناقشة المتعلقة بعولمة التجارة، ينبغي أن نسعى لإلقاء الضوء على موضوع الهجرة حتى نقدم الإرشاد المطلوب لصناع السياسات في المهام التي يضطلعون بها. ولكن كما في حدث في النقاشات المعنية بالتجارة، ينبغي أن نكون صرحاء أيضا بشأن الفائزين والخاسرين، والفترات الانتقالية، واحتياجات إعادة التدريب ونقل الموقع، والآثار على المالية العامة وبرامج الرعاية الاجتماعية. وعلينا أن نكون صرحاء في الأساس بشأن السياسة.

وتنطبق هذه النصيحة على الأكاديميين الذين يبحثون في التغيرات السريعة التي جلبتها الهجرة في هذا القرن، كما تنطبق على الحكومات التي تسعى جاهدة لمواجهة تحديات السياسة المترتبة على تدفق المهاجرين. وهي تنطبق بلا شك على عمل صندوق النقد الدولي.

وقد بذل الصندوق جهدا كبيرا في دراسة الأثر الاقتصادي للهجرة خلال السنوات الأخيرة. وقد سمعتم من زميلي هذا الصباح عن الانعكاسات على البلدان "المرسِلة" في أوروبا الشرقية. واسمحوا لي أن أستعرض بإيجاز الاستنتاجات التي توصلنا إليها بشأن البلدان المستقبِلة.

تتفق نتيجة دراساتنا مع الرأي القائل بأن الأثر الاقتصادي للهجرة على البلدان المستقبلة إيجابي بوجه عام.  

فعلى سبيل المثال، وجدنا أن الهجرة الداخلة أدت إلى زيادة كبيرة في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات المتقدمة – لأن المستويات المهارية وأوجه التكامل يعززان إنتاجية العمالة، ولأن توافد المهاجرين في سن العمل إلى بعض الأماكن يساعد على مواجهة نقص العمالة الناشئ عن التطورات الديمغرافية.

ونخلص أيضا إلى أن الهجرة تحقق مكاسب لكل مستويات الدخل، وإن كان أكثر المستفيدين هم من يقعون ضمن شريحة الدخل التي تمثل أعلى 10%. وبالإضافة إلى ذلك، لا تحدث زيادة في عدم المساواة نتيجة لدخول المهاجرين إلى سوق العمل.

وأخيرا، نخلص إلى عدم وجود آثار سلبية كبيرة على مجموعات الدخل الوسطى أو الدنيا في البلدان المستقبِلة.  

وكل هذه نتائج دراسات تجريبية، ومن ثم فهي تقوم على المعلومات المتوافرة حتى الآن. وعلينا – وعلى غيرنا من الباحثين – أن نكون مستعدين لإعادة النظر في استنتاجاتنا مع تراكم التجارب، وخاصة حيثما توجد تدفقات ضخمة جديدة في أوروبا.   

وينبغي أن نواصل إعادة النظر في استنتاجاتنا وبحث قضايا أخرى جديدة:

فعلى سبيل المثال، خلصنا إلى أن المهاجرين سواء أصحاب المهارات العالية أو المحدودة يمكن أن يكونوا سببا في رفع إنتاجية العمالة في البلدان المستقبِلة. فمن الواضح أن المهاجرين ذوي المهارات العالية يثرون سوق العمل بما لديهم من معرفة، ويعززون الابتكار، ويساعدون في رفع إنتاجية نظرائهم من العمالة المحلية. أما المهاجرون أصحاب المهارات المحدودة فيمكنهم رفع الكفاءة عن طريق شغل الوظائف التي لا تُقْبِل عليها العمالة المحلية.   

وتشير دراساتنا أيضا إلى أن المهاجرين محدودي المهارات يمكنهم إفادة نظرائهم في العمالة المحلية بما يمثلونه من دافع لرفع المستويات المهارية للجميع. وعلينا البحث فيما إذا كان هذا التأثير مؤكدا أو ملموسا مثلما هو الحال مع العمالة عالية المهارات.  

ونحن نعلم أن هناك قوى اجتماعية واقتصادية مؤثرة حاليا وقد لا يتضح تأثيرها إلا في إطار زمني أطول. فعلى سبيل المثال، توضح بعض الدراسات في الولايات المتحدة أن للمهاجرين آثارا سلبية على أجور الأجيال السابقة من المهاجرين والمتسربين المحليين من المدارس الثانوية. وتشير دراسات أخرى إلى أن الهجرة تخفض عدد ساعات عمل المراهقين المحليين. وعلينا النظر فيما إذا كانت هذه الآثار ظاهرة في أوروبا أيضا.

إن استيعاب المهاجرين في أسواق عمل البلدان المستقبِلة هو موضوع تناولته الكثير من الأبحاث. وتكتسب عملية الاندماج هذه أهمية بالغة حتى تحقق البلدان أقصى المنافع الاقتصادية الممكنة من الهجرة. ونحن نعلم بالفعل أن أبناء أوروبا الشرقية، موضع تركيز هذا المؤتمر، حققوا اندماجا سريعا بوجه عام في البلدان المستقبِلة. ولكن صناع السياسات يحتاجون الآن إلى فهم أوضح لتجربة استيعاب اللاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط وإفريقيا.

كذلك نحتاج إلى صورة أوضح عن أحوال الجيلين الثاني والثالث من مجموعات المهاجرين الأسبق، ولا سيما الذين جاءوا من البلدان النامية. وهناك مجموعات بيانات شاملة لدى البلدان المستقبلة – كالنرويج على سبيل المثال – ولكن هذا المجال البحثي يحتاج إلى مزيد من العمل للمساعدة في تحديد السياسات الأكثر فعالية.

وبخلاف الأبحاث، نود أيضا مساعدة البلدان في وضع السياسات الملائمة. ونحن نعلم أن الحكومات يمكن أن يكون تأثيرها كبيرا على انعكاسات الهجرة على المديين القصير والطويل. فمن معايير الاختيار وخدمات التوطين وقواعد العمل وفرص التعليم إلى السياسات الثقافية ذات الصلة لاستيعاب المهاجرين، تستطيع السياسات الحكومية تغيير الموازين بين تجارب الهجرة الإيجابية والسلبية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.  

ورغم أن الوقت لا يتسع لكي أتعمق في هذه القضايا اليوم، أود أن أتحدث بإيجاز عن برامج الرعاية الاجتماعية والماليات الحكومية. فمن الواضح أنه يتعين وجود فهم دقيق لتجربة اللاجئين وهيكل الحوافز حتى يتسنى تحديد التوازن الصحيح لسياسات الرعاية الاجتماعية بحيث تتجنب الخطر المعنوي والمفاضلة بين برامج الرعاية الاجتماعية.  

وتمثل سياسة الرعاية الاجتماعية موضوعا حساسا لمجموعات القوى العاملة المحلية التي تعتقد أن حياتها ازدادت صعوبة بسبب الهجرة. وهناك قرائن من الواقع تشير إلى أن جزءا من الهجوم الموجه للاتحاد الأوروبي وقت تصويت بريطانيا بالخروج منه ترجع جذوره إلى تصور عدم توازن المزايا الاجتماعية. فكان العمال العاطلون في المملكة المتحدة يشكون من اضطرارهم إلى الانتظار للحصول على إعانات البطالة بعد فقدان وظائفهم بينما كان المهاجرون الجدد يحصلون من الحكومة على دعم فوري.

وهذا مجرد مثال واحد يوضح كيف يمكن أن يساعد تحسين الفهم لأثر الهجرة على السكان المحليين في إعادة تحديد السياسات بل والحد من التوترات الاجتماعية. ومع ذلك، فالمسوح والدراسات تشير بالفعل إلى وجود نطاق أوسع من القضايا التي يشعر فيها السكان المحليون الأفقر بأنهم في منافسة مباشرة مع المهاجرين على موارد الرعاية الاجتماعية المحدودة – سواء كانت مواصلات عامة أم رعاية صحية أم مدارس مكتظة بالطلاب.

والرسالة هنا هي أنه من الضروري، ولا سيما في السياق السياسي الحالي، التوصل إلى فهم أكثر تفصيلا للتطورات التي استحدثتها زيادة الهجرة – بالتأكيد في أسواق العمل، وإنما أيضا في الاقتصاد الأوسع. وأؤكد لكم أن الصندوق، كمؤسسة تقوم على التعلم، ستستفيد من الأبحاث التي تصدر في هذا المجال. وأؤكد لكم أيضا أننا سنواصل إجراء أبحاثنا الخاصة. 

خاتمة

كل هذه قضايا مهمة وتتطلب الوضوح. وأنا أتحدث كصانع سياسات مسؤول أمام دائرة انتخابية – البلدان الأعضاء الـ189 في صندوق النقد الدولي. إنها دائرة انتخابية تواجه تحديات مترتبة على الهجرة بلغت في بعض الأحيان درجة الإجهاد أو حتى الأزمة. وتعمل حكومات أوروبا وغيرها في الوقت الحالي على إصدار قرارات ستكون لها تداعيات على المستقبل البعيد.

إن وظيفتنا هي تقديم المساعدة الآنية في مواجهة تحديات السياسة المذكورة بينما تتخذ البلدان الخطوات اللازمة لدمج المهاجرين. ولكن علينا مسؤولية أيضا في مساعدة هذه البلدان على رسم طريق يحقق المنافع الاقتصادية لشعوبها – والتعامل مع قضايا المجموعات المعوزة. وكما هو الحال مع التجارة، يعني هذا رصد أي آثار سلبية للهجرة والنظر في السياسات الملائمة لمواجهتها. وشكرا. 

إدارة التواصل، صندوق النقد الدولي
قسم العلاقات الإعلامية

مسؤول الشؤون الصحفية:

هاتف:7100-623 202 1+بريد إلكتروني: MEDIA@IMF.org