الإمكانات الاقتصادية لأحفادي
14 مارس 2024
- مقدمة
شكرا لكِ، جيليان، على هذا التقديم الكريم. أود أن أبدأ بالإشادة بقيادتك – بصفتك مفكرة مبدعة، وصحفية لامعة، وعالمة أنثروبولوجي – ومؤخرا بصفتك العميد الخامس والأربعين منذ أن تأسست كينغز كوليدج قبل حوالي 600 عام. لقد أصبحتِ سندا معنويا لكثير من الاقتصاديين، أنا واحدة منهم.
كان مصدر الإلهام وراء هذه المحاضرة هو مقال جون ماينارد كينز بعنوان " الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا". وكينز، كما نعرف جميعا، دَرَسَ في كينغز كوليدج وعمل بها، وأصبح رائد الاقتصاد الكلي الحديث. وكينز كذلك أحد مؤسسي المؤسسة التي أفتخر بقيادتها، صندوق النقد الدولي.
فعندما ذهب إلى ولاية نيوهامشير في عام 1944 لإنشاء مؤسستي بريتون وودز – صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – حمل معه رؤيته وشجاعته وتفاؤله – واعتقادا لا يتزعزع في قوة الإنسانية وقدرتها على تحسين مستويات الحياة بمرور الوقت، رغم الانتكاسات التي تجلبها الكوارث – مثل الأزمات والحروب.
ويشع هذ التفاؤل في مقاله الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا – وهذا العمل تحديدا له مكانة خاصة في قلبي. لماذا؟ لأنني أفكر كثيرا في مستقبل أحفادي. ولأن تفاؤلي لا يتزعزع – تماما مثل كينز الذي رأى مستقبلا أكثر إشراقا، حتى في عام 1930، في أيام الكساد الكبير الحالكة.
وكما كان الحال في عصر كينز، هناك كثير من المتشائمين حولنا اليوم. وبمساعدة صغيرة من الذكاء الاصطناعي، يمكننا أن نسمع ما قاله عنهم في مقاله:
" أتوقع أن خطأي التشاؤم المتعارضين اللذين يحدثان الآن الكثير من الضجيج في العالم سيثبت خطأهما في عصرنا - تشاؤم الثوريين الذين يظنون أن الأمور سيئة للغاية بحيث لا شيء يمكن أن ينقذنا سوى التغيير الجذري، وتشاؤم الرجعيين الذين يرون أن توازن حياتنا الاقتصادية والاجتماعية محفوف بالمخاطر حتى أننا يجب ألا نخاطر بخوض أي تجارب".
توقع كينز أنه في غضون 100 عام، ستكون مستويات المعيشة أعلى بمقدار ثمانية أضعاف، تدفعها المكاسب المتحققة من التكنولوجيا وتراكم رأس المال. وكان محقا – فالقفزة الهائلة في مستويات المعيشة قريبة جدا مما توقعه.
وإذا نظرنا هكذا بعيدا في المستقبل، فهو بالطبع لم يكن على صواب في كل شيء.
فقد توقع أن يحول الناس مكاسب الإنتاجية إلى مزيد من الترفيه، لكن توقعاته بشأن الخمس عشرة ساعة في الأسبوع لم تتحقق بعد. كما أنه كان متفائلا للغاية بشأن كيفية تقاسم فوائد النمو. ولا تزال درجة عدم المساواة الاقتصادية مرتفعة للغاية، داخل البلدان وفيما بينها.
ومع هذا، فإن رسالته الرئيسية عن المكاسب الاقتصادية طويلة الأجل من التكنولوجيا والاستثمار لا تزال تصدُقُ اليوم كما كانت في ذلك الوقت. وهي تشكل الأساس لوعد يتعين قطعه – للجيل القادم وما بعده.
إن حفيدتي، إيفانا، معنا هنا اليوم؛ أما حفيدي، سايميون، فربما سيقرأ كلمتي هذه عندما يكبر قليلا. فماذا يمكنني أن أفعل – ماذا يمكننا أن نفعل – لضمان أن جيلهم سيتمتع بحياة أفضل؟
فالشباب اليوم يواجه تحديات هائلة، حتى في البلدان الأكثر ثراء: من سداد تكاليف تعليمهم، والعثور على عمل وشراء منزل، حتى القلق البالغ بشأن مدى تأثير تغير المناخ على حياتهم.
من السهل أن تكون متشائما. فما عليك إلا النظر إلى هذه العناوين الرئيسية.
ينتاب كثيرا من الناس – من الشباب والكبار – شعور بأن الاقتصاد لا يحقق ما فيه صالحهم. والكثيرون ليسوا قلقين فحسب، بل هم غاضبون. ويرى كثيرون أن الثقة قد ضَعُفَت. ونحن نرى هذا يحدث – في المجتمع وفي السياسة.
ومن المؤكد أننا لا نريد لأحفادنا أن يعيشوا في عصر من الغضب؟
ولذلك، يجب أن تكون لدينا رؤية واضحة للمخاطر، وأن نرى الفرص – ونغتنمها.
أستميحكم صبرا – فمثلما فعل كينز، أريد أن تكون نظرتي طويلة المدى.
2- المائة عام الماضية
أولا، أود أن أعود إلى الماضي. على مدار المائة عام الماضية، شهد العالم تقدما أكبر لأعداد أكبر من الناس على نحو غير مسبوق.
وحتى مع زيادة عدد سكان العالم بمقدار أربعة أضعاف، بلغ ارتفاع نصيب الفرد من الدخل العالمي ثمانية أضعاف [الرسم البياني 1]. وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية وحدها، استطاع 1,5 مليار شخص الإفلات من براثن الفقر. وانضم مئات الملايين إلى الطبقة الوسطى.
ومنذ مائة عام، كان الناس محظوظين بالعيش حتى الأربعينات من عمرهم. واليوم، في المتوسط، يمكنهم أن يتوقعوا العيش حتى السبعينات من العمر[الرسم البياني 2]. ولنتأمل أيضا التحسن الهائل فيما يخص معدلات وفيات الرضع، ومعدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، ومستويات التعليم – وخاصة بالنسبة للفتيات.
كيف حققنا ذلك؟
إن اثنين من محركات التقدم – التكنولوجيا وتراكم رأس المال- عملا تماما كما توقع كينز.
فقد تحولت حياة الناس وتوقعاتهم بفعل الابتكارات – مثل الكهرباء، ومحرك الاحتراق الداخلي، والمضادات الحيوية، ونظم الصرف الداخلي، وتكنولوجيا الاتصالات – والتي بدأ كثير منها في القرن التاسع عشر وأتى ثماره في القرن العشرين.
فرأس المال دعم الاستثمار في الصناعة والزراعة والخدمات؛ والإيرادات العامة وفرت لنا البنية التحتية الضرورية من الطرق والموانئ إلى شبكات الكهرباء وكابلات الألياف الضوئية. وكان هذا كله سببا في دفع الإنتاجية ونمو الناتج، وهو ما عزز بدوره حجم الاقتصاد.
وفوق ذلك، جاء التكامل الاقتصادي. على مدار الأربعين عاما الماضية وحدها، رأينا توسعا في حجم التجارة العالمية بلغ ستة أضعاف.[الرسم البياني 3]. وزادت تدفقات رأس المال العالمية بأكثر من عشرة أضعاف، مما أعطى دفعة للإنتاجية والاستثمار، وخاصة في الاقتصادات الصاعدة.
في بلدي، بلغاريا، ازداد نصيب الفرد من الدخل بمقدار أربعة أضعاف منذ سقوط الستار الحديدي – ويرجع ذلك في معظمه إلى فرص التكامل مع الاتحاد الأوروبي والتجارة العالمية.
وارتفع عدد البلدان من حوالي 80 إلى 193 بلدا اليوم – وهي أسرة نشطة من البلدان التي تلاحمت مع بعضها البعض من خلال "مكون خاص" هو التعاون الدولي، من تنسيق السياسة الاقتصادية في أوقات الأزمات، إلى الاكتشافات العلمية والتبادل الثقافي، حتى حفظ السلام واستكشاف الفضاء.
لقد منحنا التعاون ما يسميه بعض العلماء "سلام طويل الأمد" بعد عام 1945 – أي غياب الصراع المباشر بين القوى العظمى.
وببساطة: كلما تحدثنا إلى بعضنا أكثر، وتبادلنا التجارة بيننا أكثر، ازدهرنا أكثر.
وأخذ العالم يتغير – فتحولت القوة الاقتصادية بشكل متزايد إلى البلدان الصاعدة والنامية [الرسم البياني 4]، ومن المتوقع أن تساهم هذا العام بنحو 80% من النمو العالمي.
ولكن، كانت هناك أخطاء في السياسات – وخاصة عدم القيام بما يكفي لدعم أولئك الذين تضرروا بشدة من الاختلالات التي سببتها التكنولوجيا الجديدة والتجارة. وعدم تقاسم منافع النمو على نطاق أوسع.
إن حوالي ثلاثة أرباع ثروة العالم اليوم في أيدي ما لا يزيد على عُشر سكانه [الرسم البياني 5]. ولم يعد كثير من البلدان النامية يلحق بركب مستويات الدخل في الاقتصادات المتقدمة. وهناك أكثر من 780 مليون نسمة يعانون من الجوع.
لقد تعلمنا أيضا* أن المستويات العالية من عدم المساواة الاقتصادية لها تأثير مدمر على رأس المال الاجتماعي والثقة – في المؤسسات العامة، وفي الشركات، وفي بعضها البعض.
ونرى الثقة تتضاءل بين البلدان أيضا، مع تصاعد التوترات الجغرافية–السياسية. وإذا استمر هذا الاتجاه، فإن الاقتصاد العالمي يمكن أن "يتشرذم" إلى كتل متنافسة.
وتبين أبحاث صندوق النقد الدولي* أن تشرذم التجارة وحدها يمكن أن يكبد الناتج العالمي خسائر تصل إلى 7,4 تريليون دولار على المدى الأطول – أي ما يعادل إجمالي الناتج المحلي لفرنسا وألمانيا معا.
والعالم المتشرذم سيكون أفقر وأقل أمانا. ونحن نرى المأساة الإنسانية المستمرة من الحرب الروسية في أوكرانيا والصراع بين إسرائيل وغزة – وهناك ما هو أكثر من ذلك بكثير لكنه في الغالب لا يتصدر العناوين الرئيسية. ويعمد كثير من البلدان اليوم إلى إلغاء خفض النفقات العسكرية الذي أقدمت عليه بعد نهاية الحرب الباردة. ذهبت "مكتسبات السلام"، وقد يكون "السلام طويل الأمد" في خطر.
ومن المفارقات أن نرى ذلك يحدث في وقت نحتاج فيه إلى التعاون أكثر من ذي قبل – لمعالجة القضايا التي لا حدود لها ولا يقدر على حلها أي بلد بمفرده. وربما كان تغير المناخ هو المثال الأشد وضوحا.
وهذه تحديات جسيمة. ولكن في الوقت نفسه، هناك فرص عظيمة. وإذا كانت السنوات المائة الماضية تمثل أي دليل، فيمكننا أن نكون واثقين بشكل معقول في قدرتنا على تحقيق تقدم مذهل مرة أخرى. أضف إلى ذلك فهما واضحا لما لم ينجح في الماضي، ولدينا "قوة"، تتمثل في القدرة على تغيير المسار.
3- المائة عام القادمة
تخيلوا العالم في القرن الثاني والعشرين، عالما يتمتع فيه الجميع بفرصة عادلة للاستفادة من كامل إمكاناته – بغض النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة أو نوع الجنس أو مكان الميلاد، عالما تعمل فيه التكنولوجيا لما يعود بالمنفعة على الجميع؛ عالما يعيش فيه الناس حياة صحية ومثمرة على كوكب صالح للعيش؛ عالما تعمل فيه البلدان مع بعضها البعض، وليس ضد بعضها البعض.
أرى نظرة عدم رضا في أعين المتشائمين. فلنعد مرة أخرى إلى كينز ومقاله:
"إنني أتطلع إلى أيام ليست بعيدة جدا، إلى أعظم تغيير حدث على الإطلاق في البيئة المادية لحياة الإنسان في مجملها. ولكنه، بالطبع، سيحدث كله بالتدريج ... وهو حقا قد بدأ بالفعل".
وبهذه الروح، اسمحوا لي أن أطلعكم على اثنين من السيناريوهات المحتملة للسنوات المائة القادمة، أعدهما خبراء الصندوق [الرسم البياني 6].
في ما يمكن أن نسميه "السيناريو منخفض الطموح"، سيصبح إجمالي الناتج المحلي العالمي أكبر بنحو ثلاثة أضعاف ومستويات المعيشة العالمية أعلى بمقدار مرتين مما هي عليه اليوم. وفي "السيناريو عالي الطموح"، سيكون إجمالي الناتج المحلي العالمي أكبر بمقدار 13 مرة، وستكون مستويات المعيشة أعلى بمقدار تسع مرات.
ما السبب وراء هذا الفرق الكبير؟ إن "السيناريو منخفض الطموح" يُبنى على تجربة النمو الأقل لمستويات المعيشة في المائة عام قبل عام 1920، بينما يُبنى السيناريو الآخر على متوسط معدلات النمو الأعلى بكثير من عام 1920 حتى وقتنا هذا.
وأعتقد أن أحفادنا سيستمتعون بأفضل ما في الاثنين.
أولا، لأنهم سيعتمدون على نوع مختلف من النمو: أكثر استدامة وإنصافا وأكثر صلابة – حتى تتمكن البلدان من العمل بشكل أفضل على تجاوز عالم أكثر عرضة للصدمات.
وثانيا، لأنهم سوف يعززون ما نجح معنا. وسوف يحمون ويعززون أساسيات الاقتصاد الكلي السليمة والاستقرار المالي الذي نسعى جاهدين لتحقيقه.
وثالثا، سوف يحافظون على التجارة المفتوحة كمحرك رئيسي للنمو، وعلى ريادة الأعمال كمحرك رئيسي للابتكار وتوفير فرص العمل.
ومسؤوليتنا اليوم هي ألا نورثهم التضخم الجامح، وألا تتراكم ديوننا فلا نتوقع منهم دفع الفاتورة – والتغلب على أضعف توقعات النمو على المدى المتوسط* منذ عقود [الرسم البياني 7]. ومهمتنا في صندوق النقد الدولي هي دعم بلداننا الأعضاء في إجراء إصلاحات أساسية لتحسين الإنتاجية وزيادة مرونة الاقتصاد واستدامته وصلابته.
وقبل كل شيء، علينا التزام بتصحيح الأخطاء الأشد خطورة التي اقتُرِفَت على مدار المائة عام الماضية – استمرار مستوى مرتفع من عدم المساواة الاقتصادية. ويتبين من أبحاث الصندوق* أن انخفاض عدم المساواة في توزيع الدخل يمكن أن يرتبط بنمو أعلى وأكثر استمرارا. نحن ببساطة لا يمكننا الوصول إلى "السيناريو عالي الطموح" للنمو ما لم نعزز اقتصادا عالميا أكثر عدالة.
وفي عالم يتسم بتراكم رأس المال الوفير والتغير التكنولوجي المتسارع، ستتوقف الآفاق لأحفادي على ما إذا كان بإمكاننا تخصيص رأس المال إلى حيث تشتد الحاجة إليه، وعلى تحقيق أكبر تأثير إيجابي، وعلى قدرتنا على التعاون وتحقيق التقدم وتقاسم منافعه.
وبالتالي، إذا أردنا أن نشجع النمو الأفضل والأكثر إنصافا، فأين ينبغي أن يذهب رأس المال؟ اسمحوا لي أن ألقي الضوء على ثلاثة مجالات ذات أولوية للاستثمار.
أولا، في الاقتصاد المناخي الجديد.
لم يكن لأزمة المناخ وجود في عام 1930، على الرغم من أن بذورها كانت مغروسة بالفعل في ظل سرعة تزايد الاعتماد على الوقود الأحفوري.
واليوم، الصدمات المناخية تصيب الاقتصادات في كل مكان – من الجفاف وحرائق الغابات والفيضانات إلى التأثيرات الأقل وضوحا في مجالات مثل سلاسل التوريد وأسواق التأمين. كان العام الماضي هو الأحر على الإطلاق، ومن المتوقع أن تتجاوز درجات الحرارة العالمية المستوى الحدي الحرج وهو 1,5 درجة مئوية. [الرسم البياني 10]
ويمكن أن يشير المتشائمون إلى ذلك بقولهم إن البشرية تواجه حسابا كارثيا. أما أنا فأرى صورة مختلفة: نعم، سيكون تغير المناخ دون كابح ظاهرة كارثية، ولكننا إذا اتخذنا إجراءات حاسمة على مستوى السياسات، ولا سيما خلال هذا العقد، يمكننا أن نصل إلى اقتصاد يتسم بالحياد الكربوني.
وهذا وعد يجب أن نقطعه على أنفسنا.
ويعني ذلك تعبئة تريليونات الدولارات من أجل الاستثمارات المناخية – لتخفيف الآثار والتكيف والتحول. والبلدان منخفضة الدخل هي الأقل مساهمة في الاحترار العالمي إلا أنها تعاني أكثر من غيرها، كما أنها تواجه أكبر فجوة استثمارية.
وهذا يعني معالجة إخفاق السوق الشديد الذي يرى المتسببين في التلوث وهم يلحقون الضرر بكوكبنا بدون مقابل. وسعر النفط والفحم والغاز يجب أن يعكس التكلفة الحقيقية التي تتحملها الإنسانية، بما في ذلك التأثير على مناخنا وعلى الصحة العامة.
ومع هذا، يتضح من بحوث صندوق النقد الدولي أن الدعم الصريح للوقود الأحفوري قد ارتفع إلى أكثر من 1,3 تريليون دولار [الرسم البياني 11]. هذا وحده سيئ بما فيه الكفاية. لكننا نعلم كذلك أن هذه الإعانات عادة ما تمنح أغنى 20% من السكان منافع أكبر بمقدار ستة أضعاف المنافع التي تعود على من هم ضمن أدنى 20%. وستكون المساعدة المباشرة للفئات الضعيفة أفضل بكثير.
ويتضح من بحوثنا أيضا أن تسعير الكربون هو أكثر الطرق كفاءة في تحفيز إزالة الكربون والتعجيل به. وأمامنا طريق طويل لنقطعه – متوسط سعر الطن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون اليوم لا يتجاوز 5 دولارات، وهو أقل بكثير من 80 دولارا التي نحتاج إلى بلوغها بحلول عام 2030. ولكن هناك تقدما: هناك 73 آلية لتسعير الكربون في حوالي 50 بلدا تغطي ربع الانبعاثات العالمية – أي ما يصل إلى الضعف منذ توقيع اتفاق باريس في عام 2015.
والمستثمرون يستجيبون. فمقابل كل دولار واحد يُنفَق على الوقود الأحفوري، يتم إنفاق 1,70 دولار الآن على الطاقة النظيفة –مقارنة بنسبة 1:1 منذ خمس سنوات.
من شأن زيادة الاستثمار في المناخ أن يتيح الملايين من فرص العمل الخضراء، ويزيد من الابتكار، ويسرع عمليات نقل التكنولوجيا الخضراء إلى الاقتصادات النامية. وسوف يكسر الرابط التاريخي بين النمو والانبعاثات – ومن ثم، فمع زيادة ثراء البلدان، يتمتع الناس بمستويات معيشية أفضل دون الإضرار بكوكبنا.
التحول المناخي جزء من التحرك نحو "اقتصاد أخف" - أكثر توجها نحو الأصول غير الملموسة، مثل الملكية الفكرية و"الخبرة" وليس السلع، وأكثر كفاءة وأقل إهدارا – وهو ما أطلق عليه البعض "الاقتصاد الدائري".
ثانيا، الاستثمار في الثورة الصناعية القادمة.
إننا لا نعرف على وجه اليقين كيف سيبدو الاقتصاد بعد 100 عام – أو حتى ما إذا كان سيعتمد فقط على كوكب الأرض. ولكن ما نعرفه هو أن الابتكار يتسارع، ويحول طريقة معيشتنا وعملنا وحركتنا، والطريقة التي نتواصل بها مع بعضنا البعض.
من الحوسبة الكمية إلى تكنولوجيا النانو، ومن الاندماج النووي إلى الواقع الافتراضي، ومن اللقاحات الجديدة إلى العلاج الجيني – نصنع المعجزات، مثل استعادة السمع لدى الأطفال المصابين بالصمم الجيني.
وعلينا ألّا ننسى: لا يزال عالمنا أكثر ترابطا من أي وقت مضى – لذلك هناك إمكانات هائلة لتبادل المعرفة وحشد الناس وراء القضايا المشتركة.
ولننظر إلى الذكاء الاصطناعي. بدأ الأمر هنا، في كينغز عام 1950، عندما نشر آلان تورينغ دراسته الأساسية. وكل عقد منذ ذلك الوقت جعلنا نخطو خطوة إلى الأمام، وكل خطوة جاءت أسرع من الخطوة السابقة. والذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم يستعد لتنشيط الاقتصاد العالمي: إنها لحظة "الانفجار العظيم".
وبشرى التحول لا تخلو من المخاطر. يجب أن نضمن أن التكنولوجيا تخدم البشرية – وليس العكس. وبدلا من الزيف العميق والمعلومات المضللة، نريد أن نحقق تطورات علمية وطبية وإنتاجية هائلة.
نريد من الذكاء الاصطناعي أن يضع حدا لعدم المساواة، وليس زيادته – داخل البلدان وفيما بينها على حد سواء.
ويبين بحث جديد أجراه الصندوق أن نحو 60% من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة يمكن أن تتأثر بالذكاء الاصطناعي [الرسم البياني 8]. وقد يرى نصف هؤلاء منافع يحققها الذكاء الاصطناعي - وهي أخبار رائعة. لكن النصف الآخر قد يرى الذكاء الاصطناعي يستحوذ على المزيد والمزيد من المهام البشرية. وهذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الأجور والقضاء على بعض الوظائف تماما – فقد حذر كينز نفسه من هذا عندما كتب عن "البطالة التكنولوجية".
ومن ناحية أخرى، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحرك الإنتاجية، والتي ظلت منخفضة للغاية لفترة طويلة جدا [الرسم البياني 9]. والإنتاجية، أكثر من غيرها، هي التي تحدد ثروة البلدان على المدى الطويل.
وتدهشني بشكل خاص قدرة الذكاء الاصطناعي على تحويل الاقتصادات والحياة في العالم النامي. نعم، لزيادة الإنتاجية، ولكن أيضا لتقليص الفجوات في رأس المال البشري والمساعدة على لحاق مستويات الدخل بمثيلاتها في الاقتصادات المتقدمة. ولكن يجب على البلدان أن تبدأ الاستعداد الآن: تكثيف الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتوسيع نطاق الوصول إلى إعادة التدريب واكتساب المهارات، ووضع أساس تنظيمي وأخلاقي للذكاء الاصطناعي.
ويتعين أن تقترن هذه الجهود بتعاون دولي أقوى. في الواقع، أعتقد أننا بحاجة إلى مبادئ عالمية للاستخدام المسؤول لآليات حماية الذكاء الاصطناعي للحد من المخاطر وإتاحة الفرص للجميع.
المجال الثالث هو الاستثمار في الناس.
هنا تُجنى أعظم الثمار: الاستثمار في الصحة والتعليم، وفي شبكات أمان اجتماعي أقوى، والتمكين الاقتصادي للمرأة. ويكمن هذا في صميم تراكم رأس المال بشكل أفضل وأكثر إنصافا.
وليس ثمة مكان أدل على ذلك من إفريقيا – موطن السكان الأصغر سنا والأسرع نموا. فبحلول نهاية هذا القرن، من المتوقع أن تصل حصة إفريقيا من سكان العالم إلى ما يقرب من 40%. [الرسم البياني 12]
ونجد على الطرف الآخر مناطق مثل أوروبا وشرق آسيا، التي تشهد شيخوخة السكان بسرعة – بل إن بعضها يتقلص.
ويمكننا كذلك أن نجعل الأضداد تتجاذب. ويمكننا إيجاد السبل الكفيلة بالربط بشكل أفضل بين الموارد البشرية الوفيرة في إفريقيا ورأس المال الوفير في الاقتصادات المتقدمة والأسواق الصاعدة الرئيسية.
كيف يمكننا أن نضمن تدفق رأس المال في الاتجاه الصحيح؟ في البلدان الإفريقية، المفتاح هو جذب المستثمرين على المدى الطويل وضمان استقرار التدفقات التجارية.
وهذا يعني تعزيز النمو بشكل أفضل: بدءا من تحسين بيئة الأعمال، إلى تعبئة مزيد من الإيرادات، والتخلص من الإنفاق الذي يفتقر للكفاءة. وبالنسبة للبلدان التي تواجه بالفعل ميزانيات تعاني من الضغوط وارتفاع الديون، من شأن ذلك أن يتيح مجالا أكبر للإنفاق الاجتماعي الحيوي.
وهناك مثال واحد نستقيه من أبحاث صندوق النقد الدولي*: فمن خلال بناء القدرات الضريبية، يمكن للبلدان منخفضة الدخل زيادة إيرادات ميزانياتها السنوية بما يصل إلى 9% من إجمالي الناتج المحلي – وهي زيادة كبيرة من شأنها أن تجعل جهودها الضريبية تتماشى مع اقتصادات الأسواق الصاعدة.
وهنا تكتسب شبكة الأمان المالي العالمية أهمية بالغة. وهنا يضطلع صندوق النقد الدولي بدور بالغ الأهمية – باعتباره المؤمِّن لغير المؤمَّن عليهم.
وإذا كان من الممكن الجمع بين الدعم الدولي الصحيح والسياسات المحلية الصحيحة، فبوسعنا أن نرى إفريقيا تجتذب تدفقات طويلة الأجل من الاستثمار والتكنولوجيا والمعرفة.
وهذا من شأنه أن يطلق العنان للإمكانات الكاملة لشبابها.
وما النتيجة؟ يعني هذا توفير مزيد من فرص العمل وتقليل الهجرة الخارجة من إفريقيا، وتحقيق عائدات أعلى على رأس المال يمكن استخدامها في الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك لجعل أنظمة معاشات التقاعد فيها أكثر استدامة؛ ويعني بشكل عام اقتصادا عالميا أكثر ديناميكية.
وبإيجاز: إن عالما مزدهرا في القرن المقبل يقتضي أن تكون إفريقيا مزدهرة.
4- الخاتمة: العمل متعدد الأطراف في القرن الحادي والعشرين
وتكتسب الاستثمارات في هذه المجالات الرئيسية الثلاثة – المناخ والتكنولوجيا والناس – أهمية بالغة. ولكن مرة أخرى، لا يمكننا أن نفعل ذلك في غياب التعاون.
لقد أعطانا كينز إطارا – "العمل متعدد الأطراف في القرن العشرين" الذي عاد علينا بالنفع. والآن يجب علينا تحديثه لعصر جديد.
كيف سيبدو "العمل متعدد الأطراف في القرن الحادي والعشرين"؟ أود أن أشير هنا إلى بضعة مبادئ أساسية:
- سوف يكون أكثر تمثيلا، مع تحقيق توازن أفضل بين الاقتصادات المتقدمة وأصوات البلدان الصاعدة والنامية.
- وسيكون أكثر انفتاحا و"إصغاء" - ليس للأصوات الرسمية فحسب ولكن أيضا للأصوات غير الرسمية، أصوات المجتمعات والمنظمات الاجتماعية القائمة على المصلحة المشتركة.
- وسيكون أكثر توجها نحو تحقيق النتائج، مع تحقيق نتائج ملموسة بشكل أكبر – مما سيعزز منافع التعاون الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
وتحديث الإطار متعدد الأطراف يعني كذلك تحديث المؤسسات متعددة الأطراف، بما فيها صندوق النقد الدولي.
وإذا كان لكينز أن يزور الصندوق اليوم، فإنني أظن أنه قد يفاجأ بمدى التغير الذي طرأ علينا من حيث حجمنا ونطاق عملنا وطابعنا.
فمنذ تفشي الجائحة، قدمنا حوالي تريليون دولار في هيئة سيولة وتمويل لبلداننا الأعضاء البالغ عددها 190 بلدا. وبدأنا برامج للتمويل الطارئ وتخفيف أعباء الديون مباشرة لأفقر أعضائنا. ويشمل عملنا في مجال الاقتصاد الكلي الآن التركيز على المناخ والمساواة بين الجنسين والعملة الرقمية.
ونحن المؤسسة الوحيدة في العالم التي تخولها البلدان الأعضاء لإجراء "فحوص صحية" منتظمة لاقتصاداتها. ويكتسب تقديم التحليل والمشورة على أساس محايد أهمية بالغة، ولا سيما في عالم من الأخبار المزيفة والاستقطاب السياسي.
وندرك أيضا الحاجة إلى وضع مقياس أفضل للثروة فلا يقتصر على إجمالي الناتج المحلي التقليدي، ولا يُقَدِّر رأس المال المُنْتَج وحسب، بل كذلك الطبيعة والناس ونسيج المجتمعات.
وآمل أن يوافق كينز على "ميزانية عمومية عالمية" تتضمن مجموعة واسعة من الأصول وتقر بأهمية الخدمات القيمة التي تقدمها البيئة، وقيمة المعرفة والإبداع المتجسدين في الناس، وقيمة الحوكمة الرشيدة.
وقد يُدهَش عندما يرى هذا العدد الكبير من النساء، بما في ذلك اللائي يشغلن مناصب ذات سلطة.
وأظن أنه كان سيروقه ذلك ويشجعنا على القيام بما هو أبعد من ذلك بوصفنا "خط نقل" عالمي للسياسات الاقتصادية السليمة والموارد المالية والمعرفة – ومنبرا نهائيا للتعاون الاقتصادي العالمي.
ويظل هذا هو "المكون الخاص". فلا يسعنا أن نملك عالما أفضل بدون تعاون. وفيما يتعلق بهذه النقاط الأهم على الإطلاق، كان كينز محقا مرة أخرى!
**************
وربما كان أفضل ما نتذكره به هو ماكتبه في عام 1923: "على المدى الطويل، سنكون جميعا أمواتا" – وكان يعني بذلك ما يلي:
بدلا من انتظار قوى السوق لإصلاح الأمور على المدى الطويل، ينبغي لصناع السياسات أن يحاولوا حل المشكلات في الأجل القصير. إنها دعوة للعمل، ورؤية لشيء أفضل وأكثر إشراقا.
إنها دعوة أعتزم الاستجابة لها – أن أقوم بدوري من أجل مستقبل أفضل لأحفادي.
وذلك لأن، كما كتب كينز في عام 1942: "على المدى الطويل يصبح كل شىء تقريبا ممكنا".
شكرا جزيلا.
*روابط بالانجليزية
--طالع الرسوم البيانية في النص الانجليزي