5 min (1403 words) Read

جهاد أزعور وأبيبيه آمرو سيلاسي يتحدثان عن إمكانات التجارة الموحدة عبر إفريقيا

تقف القارة الإفريقية على أعتاب حقبة جديدة؛ فقد شرعت الدول الإفريقية مجتمعة في خوض مسار تعميق التكامل التجاري، حيث تساهم اتفاقية "منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية" بدور حافز في إطلاق هذه الإمكانات وإعادة صياغة مشهد التجارة في القارة الإفريقية. وتهدف هذه المبادرة الطموحة إلى تحطيم الحواجز أمام التجارة وخلق مشهد موحد للتجارة عبر إفريقيا.

وينبغي أن نشيد بجهود صناع السياسات في إطلاق هذه المبادرة التي تشكل علامة فارقة، وإن كانت، واقعيا، جاءت استجابة إلى حد ما لتزايد التجارة والاستثمار والتدفقات المالية عبر الحدود في المنطقة على خلفية ازدياد قوة النشاط الاقتصادي على مدار السنين. ولننظر مثلا إلى تدفقات التجارة بين دول جماعة شرق إفريقيا، فقد سجل نمو الصادرات بين دول شرق إفريقيا على مدار العقدين الماضيين معدلات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها استثنائية، حيث ارتفعت أكثر من ثمانية أضعاف متجاوزة بدرجة كبيرة معدل نمو صادرات المنطقة إلى بقية العالم.

عوامل مؤثرة

تمثل اتفاقية "منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية"، التي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2021، فرصة تاريخية للدول الإفريقية لتحقيق كامل إمكاناتها الاقتصادية عن طريق تحطيم الحواجز التجارية وتحسين بيئة مزاولة التجارة الأوسع نطاقا. فالتعريفات الجمركية داخل إفريقيا مرتفعة مقارنة بالمناطق الأخرى، بحيث تصل في المتوسط إلى 6%؛ أما التدابير غير الجمركية فتصل إلى ما يعادل تعريفة جمركية بنسبة 18%. ولا تزال التحديات تكتنف بيئة التجارة، بما في ذلك البنية التحتية للنقل والاتصالات، وإمكانية الحصول على التمويل، والإجراءات الجمركية والحدودية.

وبتخفيض الحواجز التجارية سوف تتمكن هذه الاتفاقية من دفع النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل وتحسين مستويات المعيشة في شتى أنحاء القارة. وسوف تتعاظم مكاسب تعزيز التكامل التجاري إذا اقترن خفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية المنتظر في إطار اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية بإجراء إصلاحات لتحسين بيئة التجارة. فمن الممكن أن ترتفع معدلات التجارة في السلع الوسيطة في إفريقيا بنسبة هائلة تصل إلى 53%، مع إمكانية ارتفاع نمو التجارة مع بقية العالم بنسبة قدرها 15% على المدى الطويل عند الانتهاء من تنفيذ التدابير الإصلاحية بالكامل. وهذه الأرقام تعني إمكانية تحقيق مكاسب ملموسة، حيث يرتفع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في متوسط البلدان الإفريقية بأكثر من 10% مع انتشال ما يقدر بنحو 30 إلى 50 مليون نسمة من براثن الفقر المدقع.

وبعيدا عن عالم التجارة في السلع، فإن اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية تنطوي على إمكانات كبيرة لتنويع سلة صادرات إفريقيا وتشجيع التجارة في الخدمات. فمن خلال تعزيز البنية التحتية للتجارة وتحسين فرص الحصول على التمويل يمكن إعطاء دفعة لصادرات الخدمات بنسبة قدرها 50% تقريبا، مما يفتح المجال أمام الدول الإفريقية للاستفادة من تزايد الطلب العالمي على الخدمات ذات المهارات العالية والقيمة المضافة المرتفعة. فالخدمات في الوقت الراهن تشكل نصيبا محدودا نسبيا من مجموع صادرات إفريقيا، مع هيمنة الخدمات التقليدية على السوق. غير أن صعود نجم التحول الرقمي والتقدم التكنولوجي يوفران فرصة لإعادة صياغة قطاع الخدمات والاستفادة من القطاعات الناشئة مثل قطاع الاتصالات. ومن شأن تبني هذه الاتجاهات العامة أن يعزز قدرة إفريقيا التنافسية في أسواق الخدمات العالمية ويقود دفة النمو الاقتصادي المستدام.

وتتيح منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية فرصة للبلدان الإفريقية للدخول في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية، وهي خطوة بالغة الأهمية نحو التنويع الاقتصادي والتحول الصناعي. فلا تزال صادرات إفريقيا إلى بقية العالم تميل بدرجة كبيرة نحو صادرات السلع الأولية، وإن كانت أكثر تنوعا على صعيد التجارة الإقليمية. وتعد مبادرات مثل مبادرة شركات التجزئة في جنوب إفريقيا لنقل إنتاج صناعات المنسوجات إلى بلدان الجوار خير مثال على إمكانات بناء سلاسل القيمة الإقليمية. وبالتوسع في هذه الجهود واستغلال الفرص التي تتيحها منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، سوف يكون بوسع الدول الإفريقية الاستفادة من ميزتها النسبية، ودفع عجلة الابتكار، وتعزيز صلابة الاقتصاد وتنوعه.

وفي عصر التغير التكنولوجي السريع والاقتصاد العالمي المتغير، بإمكان التكامل التجاري أن يعزز صلابة إفريقيا في مواجهة الصدمات ويضع القارة على مسار النجاح على المدى الطويل. فالتحول الرقمي، على سبيل المثال، يمكن أن يخفض تكاليف التجارة بدرجة كبيرة عن طريق ترشيد الإجراءات الجمركية وتيسير المدفوعات العابرة للحدود. وتوفر النظم الإلكترونية لتتبع الشحنات ونظم المدفوعات السحابية لمحة سريعة لما يمكن أن تقدمه التكنولوجيا لرفع كفاءة التجارة. وعلاوة على ذلك، فإن تنوع وجهة الصادرات بفضل تنفيذ اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية يعني تقليل المخاطر الناجمة عن أنماط التجارة العالمية وزيادة الصلابة الاقتصادية.

الإبحار في جنبات المشهد التجاري

رغم أن هذه الرؤية للتكامل التجاري في إفريقيا تبدو واعدة، فمن المهم أن نقر بالتحديات التي تعترض الطريق.

ويتطلب تحقيق إمكانات إفريقيا الهائلة توفير شبكة قوية من خدمات البنية التحتية. فنظم النقل غير الكافية، وقلة فرص الحصول على مصادر الطاقة الموثوقة، وجوانب القصور اللوجستية تعوق حركة السلع بكفاءة. ولدعم قنوات الربط الإقليمية وتيسير التدفقات التجارية، لا بد من تنفيذ استثمارات كبيرة في البنية التحتية.

ورغم عقد الاتفاقات التجارية شبه الإقليمية، فلا تزال الحواجز غير الجمركية قائمة، مثل عدم الكفاءة الجمركية وأوجه التفاوت في القواعد التنظيمية، مما يعوق سلاسة تدفق السلع والخدمات. ومن ثم، فإن تبسيط العمليات الرقمية، وتوحيد الإجراءات الجمركية وشهادات اعتماد المنتجات، وتحقيق الاتساق بين الأطر التنظيمية هي متطلبات حيوية لضمان سلاسة التجارة داخل القارة.

وتشكل فجوة التكنولوجيا الرقمية تحديا كبيرا أمام التجارة في السلع والخدمات على السواء في إفريقيا. فالبنية التحتية الرقمية المحدودة وعدم كفاية فرص الحصول على خدمات الإنترنت بأسعار معقولة يعوقان التجارة العابرة للحدود ونمو التجارة الإلكترونية. لذا فإن الاستثمار في مجالات الربط بالخدمات الإلكترونية ومشروعات البنية التحتية الرقمية له أهمية بالغة في سبيل تسخير طاقة التجارة الرقمية.

وفي أغلب الأحيان، تواجه الشركات - لا سيما المشروعات الصغيرة والمتوسطة - صعوبات في الحصول على التمويل، مما يحد من قدرتها على المشاركة في التجارة الإقليمية. وعلى سبيل المثال، نجد أن متوسط سعر خطاب الاعتماد التجاري* في بلدان غرب إفريقيا يتراوح بين 2% و4% من قيمة المعاملة، وهو أعلى بكثير من متوسط يتراوح بين 0,25 - 0,50% في الاقتصادات المتقدمة. ومن شأن تشجيع الشمول المالي وتوفير الخيارات الائتمانية للشركات بأسعار معقولة أن يعززا فرص نموها ويمكنها من المشاركة في التجارة بين البلدان الإفريقية. 

ولكي تتمكن القوة العاملة المتنامية في إفريقيا من استغلال الفرص التي يتيحها التكامل التجاري بالكامل، يجب على الحكومات الاستثمار في التعليم وتنمية المهارات والتأكد من توفير تدابير الحماية الاجتماعية القوية لحماية الفئات الأشد ضعفا. ومع تغلغل التحول الرقمي في قطاعات عديدة، من شأن برامج التدريب الموجهة لتجهيز القوة العاملة بالمهارات اللازمة في التكنولوجيا الرقمية أن تضع إفريقيا على المسار الصحيح للاستفادة من الاقتصاد الرقمي الآخذ في التوسع. ومن الضروري توفير الحماية للفئات المتأثرة سلبا أثناء التحول إلى النمو الأعلى بغية ضمان تحقيق التنمية المستدامة والشاملة لجميع شرائح المجتمع. وينبغي تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي على نحو يتسم بالكفاءة في استهداف الفئات الأشد ضعفا ويضمن الاستمرارية المالية.

وسوف يكون بإمكان القارة الإفريقية التصدي لهذه التحديات من خلال ضخ استثمارات كبيرة في رأس المال المادي والبشري - وهي ليست بالمهمة اليسيرة في ظل قيود التمويل الحالية. فالبلدان الإفريقية تعاني بالفعل من مديونيتها المرتفعة، وقد تفاقمت الأوضاع مؤخرا من جراء التداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية في أوكرانيا - مما أدى إلى ارتفاع التضخم وتشديد السياسة النقدية العالمية. وينبغي أن تحقق الحكومات الإفريقية توازنا دقيقا بين إعطاء الأولوية للاستثمار في مشروعات البنية التحتية الحيوية واعتماد ممارسات إدارة الدين الحصيفة لضمان استدامة القدرة على تحمل الدين.

وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تدعم الحكومات قوة اقتصاداتها وتوفير مناخ للأعمال يتمتع بسلامة السياسات وفعالية الحوكمة وانخفاض البيروقراطية حتى يمكن جذب الاستثمارات. ومن الممكن أن تؤدي الشراكات مع المجتمع الدولي والقطاع الخاص إلى تعبئة الإيرادات اللازمة لمشروعات البنية التحتية.

نظرة إلى المستقبل

مع شروع إفريقيا في اتباع مسار التكامل التجاري، باتت القارة مهيأة لإطلاق العنان لإمكاناتها الاقتصادية الهائلة. فمن شأن التنفيذ الكامل لاتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، مقترنا بتطوير البنية التحتية، والاستثمار في رأس المال البشري، والجهود الرامية إلى سد الفجوة الرقمية أن يرسل إشارة بالوصول إلى نقطة تحول على طريق التكامل التجاري في إفريقيا. غير أن تحقيق المزايا الكاملة يتطلب تضافر جهود الحكومات الإفريقية والأطراف المعنية في القطاع الخاص والشركاء الدوليين بهدف التصدي لفجوات البنية التحتية، والتغلب على العقبات التنظيمية، ودعم بيئة الأعمال التي تمتلك مقومات البقاء. وبالسياسات السليمة والالتزام الجماعي، سيكون بوسع إفريقيا الاستفادة من التكامل التجاري لدفع عملية التنمية المستدامة وخلق مستقبل زاهر لمواطنيها.

وبينما تتأهب القارة لتصبح مركزا نشطا للتجارة، فإن المكاسب ستمتد لأبعد من حدود القارة، مما يعود بالنفع على التجارة العالمية وينعش الاقتصادات حول العالم. فالرحلة التي بدأتها إفريقيا نحو التكامل التجاري ليست مجرد فرصة للنمو الاقتصادي، بل هي أيضا شاهد على عزم القارة على رسم مسارها الخاص نحو الرخاء وشمول الجميع.

جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى
أبيبيه آمرو سيلاسي هو مدير الإدارة الإفريقية في صندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.