عصر الإبداع: إعادة تصور التعاون الدولي في القرن الحادي والعشرين

4 ديسمبر 2018

 محاضرة هنري كسينجر الثامنة – مكتبة الكونغرس – السيدة كريستين لاغارد- مدير عام صندوق النقد الدولي

محاضرة هنري كسينجر الثامنة – مكتبة الكونغرس – السيدة كريستين لاغارد- مدير عام صندوق النقد الدولي

النسخة المعدة للإلقاء

مقدمة

شكراً لك، سيد هاسكل، على الترحيب الحار، وشكراً للدكتورة هيدن على هذه المقدمة الكريمة. السيدة برينان: أتطلع كثيراً إلى حوارنا.

وإنه ليشرفني أن أكون معكم جميعاً هذا المساء.

ورغم أنه لم يستطع التواجد بيننا هذا المساء، فأنا أعلم أننا جميعاً نشعر بامتنان عميق تجاه الدكتور كسينجر لإطلاقه هذه السلسلة من المحاضرات المهمة منذ قرابة 20 عاماً.

وبالطبع، نتذكر كثيراً هذا المساء الرئيس الأسبق جورج بوش الأب وأسرته. ونحن نشعر بالحزن لرحيله ولكننا نحتفي بحياته الحافلة بالإنجازات. إنه الطيار الذي حارب بشجاعة في الحرب العالمية الثانية. الرئيس الذي ساعد على رأب الانقسامات بعد الحرب الباردة. رجل الدولة الذي كان يؤمن بقوة التعاون الدولي. وآمل أن نكرِّم روحه الليلة.

والواقع أن الليلة، الرابع من ديسمبر، تمثل تاريخاً مهماً لسبب آخر. ولن أخبركم به الآن، إنما عليكم الانتظار حتى نهاية كلمتي.

حين دخلت القاعة الكبرى هذا المساء، تذكرت شيئين على الفور. الأول هو أبنائي، فأحدهما مهندس معماري وفكرت أنه سيحب كثيراً هذا المكان الرائع. أما الثاني فهو بلدي الأم، فرنسا، وكذلك البلد الذي كنت فيه منذ يومين فقط للمشاركة في قمة العشرين، الأرجنتين. لماذا؟

حين استُكمِل هذا البناء في 1897، علق كبير المهندسين قائلاً إن Palais Garnierوهي دار أوبرا باريس كانت "الإلهام الأول" لمكتبة الكونغرس الجديدة. وهو أمر منطقي، لأن دار أوبرا باريس استُكمِلت قبل ذلك بعشرين عاماً، في 1875. وأعتقد الآن أن الفرنسيين ربما يكونوا قد اقترضوا هم أيضاً بعض العناصر المعمارية.. ربما من مبنى Teatro Colón الأصلي، وهو مبنى دار الأوبرا في بوينس آيرس، الذي انتهى بناؤه في 1857.

فما هي دلالة ذلك؟ أولاً، أن الملكية الفكرية القيمة كانت تحظى باهتمام كبير عبر الحدود، حتى في ذلك الوقت، على الأقل بين المعماريين الذين كانوا يسعدون بالاقتباس من بعضهم البعض، والتعلم من بعضهم البعض، والتماس الإلهام من بعضهم البعض. ثانياً، يذكرنا ذلك بأن بأنهم كانوا يفهمون أن إقامة بناء يبقى تتطلب ربط أسس الماضي الصلبة بإشراقة من الخيال.

وهذا النوع من الإبداع والرؤية طويلة الأجل، المتجذرة في التاريخ والمستنيرة بنجاحاتنا وإخفاقاتنا السابقة، هو الموضوع الذي أتناوله هذا المساء. أولاً، أين كنا؟ وكيف ساعد الإبداع في التعاون الاقتصادي الدولي على جلب الرخاء والسلم إلى العالم. وثانياً ، إلى أين يمكن أن نسافر معاً؟ وكيف يمكن أن يساعد الإبداع والفكر الاستشرافي المستنير على تطويع النظام الدولي لما نواجهه من تحديات جارية؟

أولاً- 75 عاماً من الإبداع والرؤية في التعاون الاقتصادي الدولي

وأود أن أبدأ بالحديث عن التاريخ المشترك بين الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي على مدار الخمسة والسبعين عاماً الماضية.

في النصف الأول من القرن العشرين، كانت القوى الاقتصادية والعسكرية المهيمنة تستخدم القوة لتأمين مصالحها الخاصة بتكلفة جسيمة من الأرواح البشرية والدمار المادي. غير أن النتائج المأساوية دفعت البلدان إلى البحث عن وسيلة أفضل، وعثرت عليها في عام 1944.

برزت الولايات المتحدة باعتبارها القوى الكبرى وقامت بعمل غير مسبوق. فعلى خلفية معرفتها بالنتيجة المدمرة التي انتهت إليها معاهدة فرساي في نهاية الحرب العالمية الأولى، قررت الولايات المتحدة استخدام قوتها في خدمة التعاون. كانت تجربة أدت فيما بعد إلى تشكيل عالمنا الحديث. وفي عام 2001، وصف الدكتور كيسنجر ابتكارات فترة ما بعد الحرب العالمية في محاضرته الافتتاحية قائلاً إنها "دفقة هائلة من الإبداع جلبت الأمن إلى العالم".

فكيف حققت الولايات المتحدة ذلك؟ بالسخاء مع الآخرين وبأخذ مصلحتها الخاصة في الاعتبار وبقليل من المساعدة من الأصدقاء. ولننظر إلى بعض نقاط التحول على مدار الخمسة والسبعين عاماً الماضية.

تذكروا أولاً إنشاء نظام بريتون وودز نفسه.

فقد تركت الفترة بين الحربين الكبريين أثراً عميقاً لدى مصممي النظام الأساسيين، جون مينارد كينز من المملكة المتحدة، وهاري دكستر وايت من الولايات المتحدة. ذلك أنهما شهدا اللحظة التاريخية التي بثت فيها السياسات المحلية المعيبة السم في العلاقات الدولية التي كانت مبنية على أسس مهتزة في الأصل.

وكانت النتيجة هي الحمائية والتخفيض التنافسي لأسعار العملات. وتسبب انفجار التجارة العالمية في تعميق "الكساد الكبير"، وحدوث حالة من الاضطراب الاقتصادي والمالي والاجتماعي الشديد. وفي نهاية المطاف، أدت هذه الضغوط إلى نشأة الحركات الشعبوية والحركات القومية المتطرفة، والتي انتهت بكارثة.

وعقب الخروج من الحرب العالمية الثانية، قررت الولايات المتحدة و40 بلداً آخر التقوا في بريتون وودز بولاية نيوهامبشر إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وكلفوا الصندوق بثلاث مهمات بالغة الأهمية، هي تشجيع التعاون النقدي الدولي، ودعم التوسع التجاري والنمو الاقتصادي، وتثبيط السياسات التي يمكن أن تضر بالرخاء.

كان عملاً ثورياً. عملاً يقوم على رؤية ثاقبة ... وكُتب لها النجاح.

ومن البدايات الأولى، ساعد الصندوق البلدان الأعضاء على معالجة التحديات الرئيسية الجديدة عن طريق التعاون. وكعامل مكمل لخطة مارشال، ساعدنا أوروبا في إعادة البناء على أنقاض الحرب. وأتاحت قروضنا للبلدان المقترضة فرصة لالتقاط الأنفاس وتحقيق استقرارها الاقتصادي في ظروف عصيبة وتنفيذ سياسات تعزز النمو. إنها مهمة نواصل القيام بها حتى اليوم – ولعلكم رأيتم ما قمنا به مؤخراً في بلدان متنوعة مثل الأرجنتين ومصر وأوكرانيا.

وكانت عبقرية هذا النظام التعاوني تكمن في تصميمه الذي يتكيف ويتغير مع المستجدات.

وفي مطلع السبعينات جاء هذا التغيير. ففي خطبة تاريخية للرئيس نيكسون بعنوان "تحدي السلام"، أعلن إلغاء إمكانية تحويل الدولار الأمريكي إلى ذهب. وكان القرار صادماً للعالم واضطر الجميع إلى الدخول في مفاوضات لمدة عام أدت إلى هيكل أسعار الصرف المعومة المطبق في العصر الحديث.

وفي ذلك الوقت، تصور البعض أن هذا التغيير بالتحديد سيعني نهاية الصندوق. لكن كل بلداننا الأعضاء، بما فيها الولايات المتحدة، كانت تعلم أن هدفي الاستقرار والرخاء يمتدان إلى أبعد بكثير من أسعار الصرف الثابتة. كانت تدرك مزايا وجود كيان مهمته إطفاء الحرائق المالية العالمية ويمكن أن يساعد البلدان وقت الحاجة.

بنوا على ما ثبت نجاحه، وغيروا ما لم ينجح، وتأقلموا مع الظروف.

وفي مواجهة أزمة النفط لعام 1973، أنشأ الصندوق أدوات جديدة لمساعدة البلدان في التصدي لحالة الطوارئ التي حدثت في مجال الطاقة، تمشياً مع دور الصندوق في المساعدة على تخفيف أثر الصدمات ومنع تداعياتها الضارة. وعندما أصيبت أمريكا اللاتينية بأزمة الدين في الثمانينات، سارع الصندوق لتهدئة الأجواء، بمساعدة الولايات المتحدة التي ساهمت بتقديم دعم وأفكار مبتكرة. وبعد انهيار سور برلين، تصدينا لتحدٍ جديد، وهو مساعدة البلدان التي كانت جزءاً من كتلة الاتحاد السوفييتي السابق على التحول من اقتصادات مخططة مركزياً إلى اقتصادات سوق حرة. وفي التسعينات، ساعد الصندوق البلدان على التغلب أولاً على أزمة البيزو المكسيكي ثم الأزمة المالية الآسيوية.

وفي كل هذه التحديات، ظللنا نساعد البلدان حول العالم على تقوية أساسياتها الاقتصادية – السياسات النقدية وسياسات المالية العامة وسياسات السعر الصرف – مع اتخاذ خطوات لبناء مؤسسات اقتصادية أقوى. كل هذه الجهود أتاحت تحسين السياسات التي فتحت الأسواق، وعززت التجارة، وخلقت الوظائف، وأطلقت إمكانات الاقتصاد.

ثم جاء عام 2008 والأزمة المالية العالمية. وكان الركود الكبير الذي أعقبها تذكرة لنا بأن التعاون الدولي ضرورة وليس اختياراً. وبصفتي وزيراً لمالية فرنسا آنذاك، شاركت في تلك الإجراءات التي اتخذها المجتمع الدولي. وقد اتخذت بلدان مجموعة العشرين والاحتياطي الفيدرالي خطوات استثنائية لإنقاذ النظام. وقدم الصندوق كل إمكاناته لمواجهة الأزمة، فتعهد بتقديم أكثر من 500 مليار دولار أمريكي للمساعدة في تأمين الاقتصاد العالمي. وفي العشر سنوات التالية، دعمنا برامج اقتصادية في أكثر من 90 بلداً وطوعنا أدواتنا المستخدمة في الإقراض، وهو ما شمل تقديم قروض بأسعار فائدة صفرية لمساعدة البلدان منخفضة الدخل.

لكن الاقتصاد العالمي كان يحتاج إلى أكثر من السيولة والدفعة التنشيطية. ومن ثم، عملنا مع بلداننا الأعضاء لصياغة قواعد تنظيمية أقوى للقطاع المالي حتى نتمكن، معاً، من الحيلولة دون وقوع أزمة لاحقة.

لقد تعلمنا من الماضي، وتوخينا سبيل الإبداع، وتغيرنا إلى الأفضل.

ولم يكن لأي من هذا أن يحدث بدون الولايات المتحدة. فقد تحدى هذا البلد النظام الاقتصادي العالمي حين كان تحديه ضرورياً. صاغ حلولاً وسطاً حين كانت الحلول الوسط ضرورية. لماذا؟

لأن وجود عالم أقوى وأكثر استقراراً عاد بالنفع على الولايات المتحدة. فقد مكن الولايات المتحدة من التمتع بفترة من أطول فترات النمو الاقتصادي المستمر التي عرفها العالم الحديث. ومنذ ذلك الاجتماع الذي عقد في بريتون وودز منذ قرابة 75 عاماً، ارتفع إجمالي الناتج المحلي الحقيقي الأمريكي بواقع وطوال الثلاثين عاماً التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، نما إجمالي الناتج المحلي الأمريكي بواقع 8 أضعاف. وزاد متوسط دخل العامل الأمريكي بمقدار أربع مرات  1 . ولم يأت هذا النجاح على حساب البلدان الأخرى. بل على العكس، قامت القيادة المتعاونة لهذا البلد بتمهيد السبيل ليس فقط لعقود من الفرص هنا في أمريكا، بل أيضاً للنمو الذي عم بلدان العالم.

واليوم، تغير المشهد مرة أخرى. ويرجع جانب من هذا التغير إلى العوامل الجغرافية/السياسية وتحول بعض القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، بينما يرجع جانب آخر ظهور أطراف فاعلة لا تنتمي لدول، بما فيها الشركات متعددة الجنسيات، وجانب ثالث تدفعه التكنولوجيا والوتيرة السريعة في كل شيء حولنا. وأنا متأكدة أن القائمين على هذه المكتبة على دراية كاملة بأن 90% من بيانات العالم نشأت في العامين الماضيين فقط. وبما أنني ابنة لأبوين أستاذين لعلوم الحقبة الكلاسيكية، أعلم أن والديّ يمكن أن يصعب عليهما تصديق هذه الحقيقة. لكن الحقيقة هي كل شيء – من المعلومات إلى المال إلى المرض، كلها يتنقل بسرعة في عالمنا الحديث.

لكن هذه التحولات يمكن أن تجلب فرصاً هائلة، وكذلك مخاطر غير مسبوقة. لماذا؟

لأن ما يحدث في بلد يؤثر على البلدان الأخرى أكثر مما كان عليه الحال في أي وقت مضى. أذكر مثلاً أسلحة الدمار الشامل، وأمن الفضاء الإلكتروني، والنظام المالي المترابط – كثير من تحدياتنا الحالية لا تعترف بالحدود. ولذلك، فحين يتداعى الدعم للتعاون الدولي، يجب أن نتذكر درس الولايات المتحدة وحلفائها الذي علموه للعالم منذ أكثر من 75 سنة، وهو أن التضامن مصلحة ذاتية.

ويظل هذا المبدأ قائماً في عالمنا المتغير.

ويتمثل التحدي الراهن في كيفية التكيف والإصلاح مرة أخرى.

ثانياً- الفصل الثاني: كيفية إعادة تصور التعاون الدولي

وأعتقد العام القادم 2019 يمكن أن يكون نقطة تحول أخرى في رحلتنا – لحظة يقدم فيها العالم دفقة جديدة من الإبداع في معالجة تحدياتنا المشتركة.

ويمكن أن نستمد الإلهام مما حولنا. فعلى سقف هذا المبنى الذي نراه فوقنا، نُقِشت كلمات الشاعر إدوارد يانغ " جدٌ خفيضٌ ما يبنون، من هم تحت النجوم يشيدون".

تصوروا حال العالم لو أننا أخفقنا في البناء والتكيف. يمكن أن نعيش في "عصر الغضب".

فمع حلول عام 2040، يمكن أن يصل عدم المساواة إلى مستويات تفوق ما كانت عليه في "العصر المذهَّب". فالاحتكارات القوية في مجال التكنولوجيا والحكومات الضعيفة ذات السياسات المحلية غير فعالة تجعلان النجاح مستحيلاً بالنسبة للمشروعات البادئة ورواد الأعمال. والإنجازات المحققة في المجال الصحي يمكن أن تتيح للأغنياء الأكثر ثراءً أن يعيشوا إلى عمر يتجاوز المائة والعشرين عاماً، بينما يرزح الملايين تحت وطأة الفقر المدقع والمرض. وتستمر وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه قذائفها تجاه هذه المجموعة من "السكان المُهمَلون"، مشددة على التفاوت بين واقعهم والحياة الأفضل التي يمكن أن تتحقق لهم. وتتسبب فجوة التطلعات في إذكاء السخط والغضب في النفوس. وتنهار الثقة بين البلدان. ويصبح العالم أكثر ترابطاً من خلال التكنولوجيا الرقمية، لكنه أقل ترابطاً من كل الأوجه الأخرى. والتعاون الدولي لما فيه الصالح المشترك يصبح مفهوماً يُدْرَس في المكتبات على غرار هذه المكتبة، لكنه قلما يمارَس على الساحة العالمية، نظرا لإعلاء المصالح القومية والتركيز الحصري على السياسات المحلية. واقتبس من كتاب الدكتور كيسنجر الذي يحمل عنوان النظام العالمي فأقول إننا قد " نواجه فترة يتحدد فيها المستقبل من قِبَل قوى لا تقيدها أي اعتبارات لأي نظام."

إنه سيناريو بائس للغاية، أليس كذلك؟ لكنني لا أعتقد أن نؤول إلى هذا المصير. وبالمناسبة، ليس هذا ما يعتقده الدكتور كيسنجر أيضاً. فقد تغلبنا على أخطار وجودية من قبل ونستطيع القيام بذلك مرة أخرى. فكروا في شكل العالم إذا جعلنا 2019 بداية لنوع مختلف الـ AI (*الذكاء الاصطناعي بالاختصار الإنجليزي) – هو "عصر الإبداع" (* AI أيضاً بالاختصار الإنجليزي). سيكون مستقبلاً يذكيه الإبداع والتعاون:

ومع حلول عام 2040، يمكن أن نرى اقتصادات مزدهرة تعمل في معظم المجالات بالطاقة المتجددة. ستتمتع النساء آنذاك بالتمكين الكامل في الانضمام للقوى العاملة، لتثبت أنها قوة اقتصادية واجتماعية قادرة على تغيير قواعد اللعبة. وستكون نظم التقاعد الجديدة والرعاية الصحية القابلة للتحويل بمثابة تعبير عن طبيعة العمل في الاقتصاد الرقمي. وستتحمل الشركات مسؤوليتها الاجتماعية كجزء من نماذج عملها. ويمكن أن تؤدي المهارة التكنولوجية إلى إنقاذ الأرواح وخلق الملايين من الوظائف. سنرى نهاية الهجرة الجماعية. وستتوسع التجارة في كل أرجاء العالم، ويسود التعايش السلمي بين البلدان.

أأكون مبالغة في التفاؤل؟ يجب أن أكون متفائلة. فأنا أفكر في العالم الذي سيرثه أحفادي. لكن هذا يضعنا أمام خيار جوهري: أن نقف مكتوفي الأيدي ونشاهد تأجج الخصومة والسخط حتى يتحولا إلى صراع، أو أن نمضي قدماً ونعيد تصور الطريقة التي تعمل بها البلدان معاً وتبني السلم والرخاء.

ولكن ما معنى ذلك في الواقع العملي؟ معناه أن تعمل البلدان معاً لجعل الناس محوراً لكل ما نبذله من جهود – بالتركيز على النتائج الحقيقية التي تؤدي إلى تحسين جودة الحياة. معناه أيضاً زيادة الشفافية والمساءلة على مستوى الحكومات والمؤسسات – وهو ما يشمل زيادة الاستماع إلى مختلف الأصوات. معناه ضمان استفادة الكثرة من الثمار الاقتصادية للعولمة، وليس فقط القلة.

وقد أسميت هذا "تعددية الأطراف الجديدة". ويمكن أن تسموه حسن إدراك للأمور.

ودعوني أكون واضحة هنا: فالتعاون الدولي الجيد لا يمكن أن يكون بديلا للسياسة المحلية الجيدة. ولا شك أن البلدان المنفردة عليها مسؤولية في تحقيق رفاهية مواطنيها. والواقع أن السياسات المحلية القوية يمكن أن تشكل قاعدة للتعاون الدولي الفعال. وفي عالمنا الحديث، هناك بعض القضايا التي لا يمكن معالجتها إلا بالتعاون الدولي.

وفي هذا السياق، أود مناقشة أربع قضايا هذا المساء. وفي كل منها، يحتاج النجاح إلى الإبداع والرؤية من بلداننا الأعضاء المائة والتسعة والثمانين، ومنها العضو المؤسس – الولايات المتحدة.

أ‌- مفاتيح عصر الإبداع

ويمكن أن نبدأ بالتجارة . ففي نهاية الأسبوع الماضي، حضرت قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين حيث كانت التجارة، بالطبع، نقطة محورية في نقاشاتنا.

أولاً التجارة: وأنا أقول منذ فترة أننا بحاجة إلى "إصلاح النظام". وقد بدأت ألح على البلدان الأعضاء في الآونة الأخيرة لكي "تزيل فتيل التصعيد" الذي يشعل التوترات التجارية. وكان من المشجع أن أرى تقدماً في هذا الصدد أثناء قمة مجموعة العشرين في نهاية الأسبوع. وعلينا الآن أن نواصل نزع فتيل التصعيد، مع تحسين النظام التجاري للمستقبل. وسيتضمن هذا إلغاء الدعم التشويهي، أياً كان شكله أو لونه. وسيعني أيضاً حماية حقوق الملكية الفكرية دون خنق الابتكار، والتخلص من فرص تحقيق الريع. ويمكن أن يؤدي اعتماد اتفاقيات تجارية جديدة إلى إطلاق إمكانات التجارة الإلكترونية والتجارة في الخدمات. وينبغي أن أؤكد أن اعتماد سياسات اقتصادية كلية أفضل من شأنه الحد من الاختلالات الخارجية – بما في ذلك الفوائض والعجوزات في الميزان التجاري – التي شكلت خلفية لاحتدام التوترات التجارية. وكل هذه الأمور تكتسب أهمية بالغة لأن التجارة ترفع الإنتاجية وتعجل وتيرة الابتكار.

وقضيتي الثانية التي نحتاج فيها إلى مزيد من التعاون هي الضرائب الدولية. فالشركات تتمتع الآن بتواجد عالمي، لكن الحكومات لم تتوصل بعد إلى حل عالمي للقضايا الضريبية. وهناك الآن كم هائل من الدولارات الضريبية المتروكة بسبب السعي وراء الأمثلية الضريبية والممارسات الإبداعية السلبية. ومن ثم تحتاج البلدان إلى العمل في تعاون وثيق لجمع مستحقاتها وتجنب الدخول في سباق يصل بالضرائب إلى القاع. ويمكنها سد الثغرات التي تؤدي إلى ما نسميه "تآكل القواعد الضريبية ونقل الأرباح". والصندوق يعمل بالتعاون مع شركائه حتى يمكن لبلداننا الأعضاء أن تتبادل الممارسات الفضلى وتخرج بقواعد تنظيمية للاقتصاد الرقمي الذي لا نجد فيه للشركات أي قاعدة عمليات ثابتة. وما الحاجة إلى هذا الدخل؟ لأن البلدان ينبغي أن تستثمر في مستقبلها. ويمكن أن يتضافر التمويل العام والخاص لتقوية البنية التحتية، وتحسين التعليم، وإعدادنا جميعاً للتكيف مع التحول التكنولوجي الذي يطرق الأبواب.

وقضيتي الثالثة تتعلق بالمناخ الذي نعيش فيه. فمن الأعاصير العاتية في الكاريبي إلى حرائق الغابات في كاليفورنيا، يزداد الشعور بالآثار الخطيرة لتغير المناخ كل يوم. وتشير دراسة حديثة أصدرتها الحكومة الأمريكية إلى أن الأثر الاقتصادي الناجم عن تغير المناخ يمكن أن يخفض إجمالي الناتج المحلي الأمريكي إلى حد كبير في العقود القادمة. وقد كان الاتفاق التعاوني الذي تم التوصل إليه في باريس في 2015 هو أفضل عدة من الأدوات يمكننا استخدامها للبدء في مواجهة هذا التحدي الذي يهدد كوكب الأرض والانتقال إلى اقتصاد خال من الكربون. كما أنه يعبر عن الأفكار التي أبرزتها هذا المساء – الإبداع والرؤية الاستشرافية والالتزام العالمي بالمصلحة المشتركة التي تخدم المصلحة الذاتية. وهذه مسألة يرتهن بها بقاء أبنائنا وأحفادنا.

وكل من هذه القضايا – التجارة والضرائب والمناخ – يستحق محاضرة كاملة من محاضرات كيسنجر. لكن هناك قضية أعتقد أنها تشكل حجر الأساس الذي يقوم عليه التقدم في كل مكان تقريباً. ولهذا فإن المجال الرابع والأخير الذي أود مناقشته معكم هو الحوكمة الرشيدة غير المكبلة بقيود الفساد. والحقيقة البسيطة هي أنه بدون الثقة في مؤسساتنا، لن يتسنى تحقيق أي تغيير مما نسعى إليه. وعلى ذلك، اسمحوا لي أن أركز على هذه المسألة بإيجاز.

ب - مكافحة الفساد وتشجيع الحوكمة الرشيدة

لماذا يؤدي الفساد إلى ضرر جسيم؟ لأن الناس يبدأون في الانفصال عن المجتمع حين يتسلل إليهم الاعتقاد بأن الاقتصاد لم يعد يعمل لصالحهم. والفساد يجرد الاقتصاد من حيويته ويستنزف الموارد المطلوبة بشدة. ويؤدي تحويل الموارد بعيداً عن التعليم أو الرعاية الصحية إلى استدامة عدم المساواة والحد من إمكانية تحقيق حياة أفضل. وتبلغ التكلفة السنوية للرشوة وحدها أكثر من 1.5 تريليون دولار أمريكي – أي حوالي 2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.2

ويشعر جيل الألفية بهذه المشكلة على نحو حاد. فقد كشف مسح أُجري مؤخراً لشباب العالم أن الشباب يعتبرون الفساد – وليس الوظائف ولا الافتقار إلى التعليم – أكبر بواعث القلق الضاغطة في بلدانهم.3

ولا تخلو هذه الرؤية من الحكمة – لأن الفساد هو السبب الجذري لكثير من مظاهر الظلم الاقتصادي التي يشعر بها الشباب والشابات كل يوم.

ولهذا بدأ الصندوق مدعوماً من كل البلدان الأعضاء يتفحص من جديد أثر الفساد على صحة الاقتصاد الكلي في كل بلد. وقد عملنا حتى الآن مع أكثر من 110 بلداً من أجل تعزيز جهودها في معالجة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وما هذا إلا جزء صغير من العمل الأوسع نطاقاً المطلوب لدعم الحوكمة الرشيدة. فالاستثمار في المؤسسات أمر لا غنى عنه، وكذلك الإصرار على التحقق من قيام المؤسسات بالفعل بما يتعين عليها القيام به.

وهناك نقطة جوهرية في هذا الصدد: فالفساد سرطان لا يعترف بالحدود.

ولننظر مثلاً إلى التكنولوجيا المالية وكيف بدأت تغير اللعبة الاقتصادية. فالابتكارات الجديدة – ومنها العملات المشفرة – يمكن أن يستخدمها مرتكبو الجرائم الإلكترونية لتوجيه التدفقات المالية غير المشروعة وتمويل الأنشطة غير المشروعة على مستوى العالم. وليست هذه مشكلة مقصورة على بلد واحد ولا هي مشكلة هينة يمكن لبلد واحد أن يتصدى لها. إنما هي مشكلة لا يمكن حلها إلا بالتعاون عبر الحدود.

لكن هذا أمر يمكن إصلاحه بالفعل. فنفس هذه الابتكارات التي تفرض تحديات عبر الحدود يمكن استخدامها أيضاً لمساعدتنا في القيام بحرب مضادة. ومن خلال التقنيات البيومترية لتحديد الهوية، وتقنيات بلوك تشين وغيرها، يمكننا العثور على سبل مبتكرة لبناء نظام أفضل وأكثر أماناً على المدى الأطول. وتستطيع الحكومات، ويجب عليها، أن تعمل مع أفضل المهندسين في العالم لبناء نظم أقوى للأمن الإلكتروني يمكنها حماية الحسابات المصرفية للأفراد وحماية رخائهم. وهذه مصلحة مشتركة يجب أن ندعمها مختارين.

فإذا تصدينا لتحدي الفساد، يمكن أن يكون ذلك نموذجاً للتعاون في كل المجالات التي أشرت إليها الليلة. يمكن أن يكون ذلك إشارة لأن "الأخوة في الإنسانية"، على حد تعبير كينز، مستعدة مرة أخرى لتلبية نداء التاريخ. إلا أن هذه المرة ستقوم النساء بدور بارز!

هكذا نبدأ في استعادة الثقة، أثمن سلعة في مجتمعنا وأكثرها رواجاً.

هكذا نبدأ في التكيف مرة أخرى ونعيد تصور التعاون الدولي.

هكذا يمكن، بالعمل معاً، أن نبدأ تشكيل "عصر الإبداع".

خاتمة

والآن، قبل أن أختم كلمتي، بقي شيء واحد عليّ القيام به. فقد بدأت تعليقاتي بالإشارة إلى 4 ديسمبر باعتباره تاريخاً مهماً. هل خمن أي منكم ما قصدته؟

في الرابع من ديسمبر 1918 منذ مائة عام بالضبط، أبحر الرئيس وودرو ويلسون إلى فرنسا للمساعدة في التفاوض على ما كان يأمل أن يكون سلاماً دائماً. وقد أصبح أول رئيس أمريكي في السلطة يسافر إلى أوروبا. ومن بعض الأوجه، يمكن أن نُرجع إلى هذا التاريخ أصول الإبداع والفكر الاستشرافي في السياسة الخارجية الأمريكية.

إنها تذكرة تدعو إلى التواضع، حيث تكشف لنا أن خططنا لا تنتهي في كل الأحوال كما ننتوي. لكنها إشارة أيضاً إلى أن علينا المحاولة مراراً وتكراراً للتغلب على الصعاب.

يجب أن نبني على ما ينجح، ونغير ما لا يكتب له النجاح، ونتطور باستمرار، ونتحسن، ونتخيل مستقبلاً أفضل للبشرية. إنها رؤية القادة الملهمين في هذا البلد وهي الرسالة التي سنظل نسترشد بها في قادم الأيام.

وشكراً.


1 [i] U.S. Bureau of Economic Analysis (BEA). “National Data.”

2 [ii] Corruption: Costs and Mitigating Strategies . IMF Staff Discussion Note. (May 2016)