الميزة البشرية

بابلو بينا

ديسمبر 2025

الصورة: Irene Servillo

الفضول والتفكير النقدي والتنظيم الذاتي أكثر أهمية من أي وقت مضى في عصر الذكاء الاصطناعي

لطالما أدرك الاقتصاديون أهمية رأس المال البشري - المهارات والمعارف الكامنة في البشر. فمنذ ما يزيد على قرن، كتب ألفريد مارشال أن "الاستثمار البشري هو أثمن أشكال رأس المال". وقد أشار عدد من المفكرين من خارج دوائر الاقتصاد إلى الأمر ذاته. فقد تساءل الفيلسوف ميشيل فوكو، متأملا في الصعود الاقتصادي للغرب في القرنين السادس عشر والسابع عشر: "ألم ينتج ذلك تحديدا عن سرعة تراكم رأس المال البشري؟" وليس من المبالغة القول بأن رأس المال البشري هو سبب تحسن مستويات المعيشة جيلا بعد الآخر في المجتمعات الحديثة.

وقد أثارت التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي مخاوف بشأن استبعاد رأس المال البشري. فهل سيكون الذكاء الاصطناعي ورأس المال البشري مكملين لبعضهما البعض، بحيث يزيد كل منهما إنتاجية الآخر؟ أم سيحل أحدهما محل الآخر؟ هناك ثلاثة عناصر أساسية ملازمة لرأس المال البشري، وإن كانت تُغفل أحيانًا، يمكن أن تساعد في الإجابة عن هذه الأسئلة الصعبة: الفضول، والتفكير النقدي، والتنظيم الذاتي.

الفضول

لنتخيل لو أمكن جمع كافة البيانات التي سجلها البشر حتى عام 1939، ومن ثم ضخها في أحد نماذج اللغة الكبيرة.

ويحظى عام 1939 بأهمية كبيرة، إذ سبق مجيء بول مكارتني وجون لينون إلى عالمنا بفترة وجيزة، بل سبق في الواقع مجيئهما إلى رحمي أميهما. ولنفترض أننا طلبنا بعدها من نموذج اللغة الكبير تأليف أغان لها نفس الصفات التي استخدمها النقاد في وصف موسيقى فرقة البيتلز. فهل سينتج نموذج اللغة الكبير أغنية "Yesterday

لن يحدث ذلك لسببين. أولا، لن تكون هناك معلومات كافية للتنبؤ بالإنتاج الإبداعي الذي سيقدمه ابنا ليفربول اللذان لم يُولدا بعد. فقد استُلهمت أغاني لينون ومكارتني من تجاربهما الحياتية. وحتى قبل وجودهما، لم تكن هناك أي فكرة عن ماهية تلك التجارب. وعلاوة على ذلك، لن يكون بإمكاننا التنبؤ بثقة بوجود جون وبول أصلا – فلم نكن لنعرف أيا من ملايين الحيوانات المنوية لوالديهما قد ينجح في تخصيب بويضات أميهما.

ثانيا، بدون التطرق إلى تفاصيل الأغاني، ستكون أوامرنا مبهمة للغاية. فقد وُصفت أغنية "Yesterday" بأنها حزينة، وخالدة، ورائعة، وعاطفية، وحميمية. وقد تبدو هذه الكلمات صحيحة، ولكنها لا تساعد كثيرا في تضييق نطاق الاحتمالات. إذن، قبل فرقة البيتلز، لم يكن بإمكان الذكاء الاصطناعي التنبؤ بموسيقاها، وكان سيفوتنا ما يعتبره البعض من أفضل أغاني الروك آند رول. وينطبق الأمر ذاته على أعمال رسامك أو كاتبك أو نحاتك المفضل، إلخ – أو أي شخص وُلد بعد عام 1939.

والآن، لنفكر في عصرنا الحالي بدلا من عام 1939. فللأسباب ذاتها، لن يكون نموذج اللغة الكبير المحمل بجميع المعلومات المتاحة حتى الآن بديلاً عن موهبة مُبدعي المستقبل وابتكاراتهم وفضولهم. ورغم أن الذكاء الاصطناعي قد ينجح إلى حد ما في إعادة جمع البيانات القديمة (الكتب والسجلات والصور القديمة)، فإنه لا يستطيع محاكاة الإبداعات البشرية التي لم تر النور بعد.

وهذا المفهوم لا يقتصر على الفنون فحسب. فعلى سبيل المثال، لننظر إلى هذا السؤال في مجال السياسات: "ماذا بإمكاننا أن نفعل للحد من عنف السلاح في شيكاغو؟" سيجيب نموذج اللغة الكبير بموجز للدراسات السابقة، وربما يسلط الضوء على الدراسات الأنسب لتلك المدينة، ولكنه لن يختبر أفكارا جديدة لتقديم إجابة غير معروفة سلفا. فالذكاء الاصطناعي لن يلجأ من تلقاء نفسه إلى تصميم تدخلات على مستوى السياسات، أو الحصول على التمويل اللازم لتنفيذها، أو إعداد مندوبين لإجراء المسوح، أو زيارة الأسر، أو إقناع المشاركين بالإجابة، إلخ. فتلك مهام يقوم بها البشر بدافع من فضولهم الفكري. والفضول هو ما ينمي مخزون المعرفة الذي يعتمد عليه الذكاء الاصطناعي.

وسنصل لا محالة إلى مرحلة تكون فيها نماذج اللغة الكبيرة قد استوعبت جميع البيانات المتاحة - وهي حالة تُسمى "بيانات الذروة". وبعدها، وبدون معلومات جديدة (كدراسات حول استراتيجيات جديدة لمنع عنف السلاح على سبيل المثال)، لن نرى تحسنا ملحوظا في مخرجات نماذج اللغة الكبيرة. وإذا قرر الجميع الاعتماد على مخرجات نماذج اللغة الكبيرة بدلا من إجراء بحوث جديدة وتمويلها، سرعان ما سنجد أنفسنا عالقين في دراسات قديمة - وهو وضع غير مرغوب فيه بلا شك.

ويتضح من مفهوم بيانات الذروة أن تحسن أداء الذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر في الإجابة عن أسئلتنا مرهون باستمرارنا نحن البشر في توسيع آفاق المعرفة، وطرح أسئلة جديدة والبحث عن إجابات لها. فعلينا ألا نتوقف عن الإبداع والفضول.

وتشبيه الأمر بالسوق المالية يؤكد هذه النقطة. لننظر في فرضية السوق الكفء* الشهيرة التي طرحها يوجين فاما، حيث تتمثل الفكرة في أن الأسعار تشمل جميع المعلومات المتاحة، وبالتالي لا يمكنك التفوق على السوق (إلا إذا كنت تمتلك بعض المعلومات المحمية). وقد طور سانفورد غروسمان وجوزيف ستيغليتز هذا المفهوم لاحقا فيما أطلقا عليه مفارقة المعلومات*: إذا كانت الأسعار تعكس بالفعل جميع المعلومات المتاحة، فإن المستثمرين لن يكون لديهم الحافز على جمع المعلومات وتحليلها. ولكن إذا امتنع الجميع عن جمع المعلومات، فكيف يُمكن أن تنعكس على الأسعار؟ إذن فالمشاركون في السوق ينتجون المعلومات ويعالجونها نظرا لوجود فوائد من القيام بذلك، وتعكس الأسعار هذه المعلومات – حتى وإن لم يكن بشكل كامل أو فوري.

وبالمثل، قد يستوعب الذكاء الاصطناعي جميع المعلومات المتاحة في وقت معين، ولكن أهميته وتطوره مرهونان باستمرار البشر في إنتاج المعارف الجديدة. ومن هذا المنظور، فإن العلاقة بين الفضول والذكاء الاصطناعي تكاملية لا إحلالية. وعلى المدى البعيد، لن يتطور الذكاء الاصطناعي إلا إذا ابتكر البشر أفكارا أكثر وأفضل.

التفكير النقدي

يصف فريدريك باستيا في كتابه "مغالطات اقتصادية" الصادر عام 1845 ثنائية مثيرة للاهتمام بين العلوم الصلبة والعلوم الاجتماعية.

فيرى باستيا أن العلوم الصلبة لا يعرفها سوى العلماء، و"رغم جهل عامة الناس بها، فإنهم يستفيدون منها". أما التطبيقات العملية للعلوم الاجتماعية، فتهم الجميع و"لا أحد يعترف بجهله بها". وبينما يتقبل الناس آراء الخبراء في العلوم الطبيعية دون تردد، نادرًا ما يفعلون ذلك عندما يتعلق الأمر بالعلوم الاجتماعية. فالشخص العادي لا يدعي معرفة وسيلة أفضل لبناء الرقائق الإلكترونية أو محركات الطائرات، ولكنه غالبا ما يدعي أن بإمكانه تحسين النظام الضريبي أو مكافحة الفقر بفعالية أكبر. وتنطبق ثنائية باستيا على علاقتنا بالذكاء الاصطناعي.

فإذا طلبت من أحد نماذج اللغة الكبيرة حل مسألة رياضية، فستحصل على إجابة بسيطة ومباشرة. وحكمك في هذه الحالة ليس ضروريا. فتصوراتك المسبقة لا تؤثر على تفسيرك للمعلومات التي تحصل عليها. أما في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فالوضع مختلف غالبا. فكر في طرح الأسئلة التالية على أحد نماذج اللغة الكبيرة: كيف أعرف أن شخصا ما يحبني؟ هل يوجد إله؟ هل ينبغي لي إنجاب أطفال؟ لمن ينبغي أن أصوت في الانتخابات الرئاسية؟ ستقدم نماذج اللغة الكبيرة إجابات، ولكنها ستعيد صياغة ما قاله الآخرون عبر التاريخ - وهو أبعد ما يكون عن تقديم إجابة حاسمة. وسيكون علينا نحن أن نقيم الحجج ونصدر الأحكام. ومن هذا المنطلق، يكتسب التفكير النقدي قيمته.

وهناك سبب آخر لأهمية التفكير النقدي. فقد حذر* عالم النفس دونالد كامبل من أنه "كلما زاد استخدام أحد المؤشرات الاجتماعية الكمية في صنع القرار، أصبح أكثر عرضة لضغوط الفساد". وينطبق قانون كامبل أيضا على الذكاء الاصطناعي. فاعتماد الكثيرين على نماذج اللغة الكبيرة يغري الأطراف الخبيثة بتلويث البيانات المستخدمة في تدريب النماذج عبر التضليل المعلوماتي – فيما يعرف باسم "تسميم البيانات". ولذلك، فحتى على أبسط المستويات، قد تكون المعلومات التي تقدمها نماذج اللغة الكبيرة مضللة. ولذلك علينا أن نظل يقظين. والتفكير النقدي عنصر أساسي في هذه العملية.

التنظيم الذاتي

بإمكان الذكاء الاصطناعي تلخيص كمّ هائل من المعلومات للاسترشاد بها في صنع قراراتنا، ولكنه لا يتحكم فيما نفعله في الواقع. ونحن عرضة للخطأ وكثيرا ما نستسلم لمشاعرنا. فيمكن لأحد نماذج اللغة الكبيرة أن يضع خطة تمارين رياضية مثالية مصممة خصيصا لك، ولكن نجاحها يعتمد على مدى انضباطك: هل يمكنك الالتزام بالخطة حتى عندما لا تشعر بالرغبة في ممارسة الرياضة؟ وبإمكان الذكاء الاصطناعي أن يخبر زميلتك بمقدار ما يجب عليها ادخاره كل شهر قبل التقاعد أو يحدد لجارك كمية الكحول التي يجب أن يحتسيها في الحفلات، لكنهما قد لا يأخذان بنصيحته رغم علمهما بصحتها.

وقد أقر الاقتصاديون بداية بآدم سميث بإمكانية وقوع الإنسان في الخطأ. ففي كتابه "نظرية المشاعر الأخلاقية" (The Theory of Moral Sentiments) الصادر عام 1790، يقول سميث: "إن أكثر الصفات نفعا هي، أولا، التفوق الفكري والإدراكي... وثانيا، ضبط النفس الذي يمكننا من التخلي عن المتع الحاضرة أو تحمّل الألم الحاضر للحصول على متعة أكبر أو تجنب ألم أشد في المستقبل". إذن، فالأمر لا يتعلق بإدراك الصواب فحسب، بل بامتلاك قدر كاف من التنظيم الذاتي للقيام بما يلزم لتحقيقه.

وتكتسب فكرة سميث أهمية بالغة في سياق مجموعة الأنشطة البشرية المتنوعة التي يطلق عليها الاقتصاديون اسم "إنتاج قطاع الأسر". وهذا المصطلح يعني أن ما نشتريه لا نستهلكه عادة "كما هو"، بل نحوله بالوقت والجهد والمهارة. فقد نشتري دراجة ثابتة، ولكن يبقى علينا أن نستخدمها. وينطبق الأمر ذاته على كتاب ما، ومكونات الوجبات، وحتى العلاقات. إذ يجب علينا أن نكرّس الوقت والجهد والمهارة لنحصل من خلالها على ما نريده بالفعل. وهذه العملية ينطبق عليها مشكلة الحلقة الأضعف التي وصفها مايكل كريمر في نظرية الحلقة (O-Ring Theory) (التي تحمل اسم قطعة من مكوك فضائي تعطلت قبل 40 عاما). وفي هذا السياق، فإن الإسهامات البشرية من جهد ووقت ومهارة لا يمكن للمدخلات الأخرى أن تحل محلها. فلا يهم مدى روعة صالة الألعاب الرياضية إذا لم تقصدها. ويمكننا تطبيق المبدأ ذاته على الذكاء الاصطناعي: فكلما ازداد تطوره، ستكون الحلقة الأضعف هي قدرتنا على الالتزام بما نعلم أنه الأنفع لنا. وبالتالي، يكتسب التنظيم الذاتي أهمية أكبر مع تحسن قدرة الذكاء الاصطناعي على توفير المعلومات.

رأس المال البشري

الفضول والتفكير النقدي والتنظيم الذاتي من أشكال رأس المال البشري التي تنمو بالتشجيع- المتكرر والمتعمد – على التحلي بالفضول والتفكير النقدي والتنظيم الذاتي. وللمتشككين في إمكانية تطوير هذه الصفات، فكروا في العكس: فالأنظمة المدرسية أو أماكن العمل التي تحبط حب الاستطلاع والتأمل والاستقلالية تقوض هذه المهارات.

وبالنسبة للقراء الذين يشعرون بالقلق حيال التفرد - أي اللحظة التي يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري ويصبح قادرا على تطوير نفسه - قد يبدو الحديث عن نماذج اللغة الكبيرة ساذجا. ومنذ تلك اللحظة، قد يتحول الذكاء الاصطناعي إلى نوع جديد من الكائنات على كوكب الأرض. ويمكننا التكهن بسيناريوهين مستقبليين للعلاقة بين البشر والذكاء الاصطناعي. في السيناريو الأول، يكون البشر والآلات خصمين، على غرار فيلم الأخوين وتشاوسكي "The Matrix".

وسيكون رأس المال البشري لكل جيل هو السبيل الوحيد للمقاومة، وبالتالي ستكون مراكمته أولوية. وفي السيناريو الآخر، يتعايش الذكاء الاصطناعي والبشر بسلام. فكيف ستكون علاقتنا مع الكائنات فائقة الذكاء؟

لقد اختبر البشر هذه التفاعلات بصورة ما بالفعل في سياق عملهم لدى المؤسسات الكبرى. فهذه "الكائنات المتفوقة" تحرص على مصلحتها الذاتية، وتمتلك قدرات عقلية تفوق بكثير قدرات أي إنسان. ومع ذلك، فهي تعوضنا عن استخدام معارفنا ومهاراتنا لخدمة أهدافها. فإذا كانت علاقتنا بالذكاء الاصطناعي ما بعد التفرد مماثلة لعلاقتنا بهذه المنظمات، سيظل من المجدي الاستثمار في رأس المال البشري. وفي سيناريو التعايش هذا، قد يختار البعض إقامة مجتمعات خالية من الذكاء الاصطناعي. وستعتمد هذه الأماكن منخفضة التكنولوجيا على رأس المال البشري لأعضائها. وهكذا، سواء كنا من أصحاب الفكر المتشائم أم لا، تظل الحجة قوية للاستثمار في رأس المال البشري.

وفي الوقت الحاضر، تبذل شركة ميتا جهودا جديرة بالاهتمام لاستقطاب المواهب البشرية للعمل على تعزيز تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي - مقابل حزمة تعويضات باهظة، مما يؤكد على أهمية رأس المال البشري اليوم. فعصر رأس المال البشري لم ينته؛ بل يواصل تطوره. فكر في ميكنة الزراعة، وأتمتة الصناعات التحويلية، والتحول الجاري إلى التقنيات الخوارزمية في قطاع الخدمات. ففي كل من هذه المراحل، تحرر رأس المال البشري في بعض المجالات وازداد الطلب عليه في مجالات أخرى.

ولكن ينبغي ألا ننظر إلى هذه المراحل كعمليات منفصلة. فرأس المال البشري الذي استُعيض عنه بالجرارات والري والأسمدة جعل انتعاشة الصناعة التحويلية ممكنة. وخطوط الإنتاج التي تعتمد على العمليات الآلية جعلت انتعاشة الخدمات ممكنة. والذكاء الاصطناعي سيجعل الانتعاشة التالية ممكنة أيضا. ومجرد عدم قدرتنا على تصور ذلك في الوقت الحالي لن ينفي حدوثه. تصوروا أجدادنا من قديم الزمان وهم يتخيلون ما قد يفعله غوغل أو إنفيديا اليوم. وهكذا، فإن رأس المال البشري كان ولا يزال مهما، ولكن بصور جديدة ربما يصعب التنبؤ بها. وستكون هناك قطاعات جديدة في المستقبل قادرة على تحقيق الكثير من القيمة بفضل مهارات البشر ومعارفهم.

* بالانجليزية

بابلو بينا أستاذ مشارك في قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو ومؤلف كتاب "Human Capital for Humans: An Accessible Introduction to the Economic Science of People".

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.

أحدث المجلات للتمويل والتنمية
ديسمبر 2025
سبتمبر 2025