نبض الكوكب

كينيث كوكيير

ديسمبر 2025

الصورة: Alex Robbins

انفجار البيانات يتيح طرقا جديدة لفهم الاقتصاد - وتغيير ما يُقاس، لا مجرد كيفية القياس

نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما نكون. وفي عالم البيانات، يحتاج الاقتصاديون إلى إعادة التفكير في المعلومات التي يستخدمونها لتصوير الحقيقة على أرض الواقع وإعادة تصور الحقيقة التي يرغبون في تسجيلها. ويعاني هذا المجال من "الانحياز المهني"، إذ ينظر إلى الاقتصاد من خلال عدسة عالم "البيانات الصغيرة" الذي عرفه منذ زمن طويل. ولكن في عالم "البيانات الكبيرة" -حيث يتزايد تنوع مصادر البيانات وتواترها ودقتها (والخصائص التي ينهيم قياسها) بشكل هائل- يتطلب الأمر عقلية جديدة. 

ولكي نُكَوِّنُ فكرة عن طبيعة هذا التصادم بين الكمٍّ الأكبر من المعلومات والتفكير التقليدي، فلننظر إلى لمحة تاريخية من مجال الرعاية الصحية. 

في عام 1990، أصدرت شركة جنرال إلكتريك تحديثا لبرمجيات أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي "سيغنا" المستخدمة في الفحوص الطبية. وكان المهندسون قد اكتشفوا خللا في النظام كان يضغط على طريقة عرض الأنسجة التي تحتوي على الدهون. ولكن عندما أصبحت الصور الأكثر دقة متاحة، تمرّد كثير من أخصائيي الأشعة. فهُم لم يعتادوا رؤية الفحوص المحسّنة وشعروا براحة أكبر في تقييم الصور القديمة. وكانت هناك مخاوف من حدوث أخطاء في التشخيص بسبب الصور الجديدة. واضطرت شركة جنرال إلكتريك إلى إضافة خاصية في أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي تسمح لأخصائيي الأشعة برؤية صور المسح القديمة التي وُصفت بأنها "كلاسيكية"، في إشارة ساخرة إلى الفوضى التي رافقت إطلاق مشروب "نيو كوك" قبل ذلك ببضع سنوات.

إن فحص الرنين المغناطيسي تصويري ومعلوماتي. فهو ليس الشيء في حد ذاته. وبهذا المعنى، فهو يشبه البيانات الاقتصادية إلى حد ما، مثل بيانات النمو والبطالة والتضخم وما إلى ذلك. وكان أخصائيو الأشعة في تسعينيات القرن الماضي يفضّلون المعلومات الأقل دقة لأنهم اعتادوا استخدام صور المسح المضغوطة؛ فقد صُقلت مهاراتهم إلى حد كبير للعمل ضمن تلك القيود. ولذلك أبدوا مقاومتهم للصور الأفضل. فهل هناك خطر من أن يقع الاقتصاديون اليوم في الفخ الذهني نفسه؟

مجرة البيانات

تأمّل مجرة البيانات والذكاء الاصطناعي التي تحيط بنا اليوم، وكم هي جديدة. فقبل ربع قرن، لم تكن معظم الأشياء في الحياة تحتوي على رقيقة كمبيوتر أو تتصل بشبكة. لقد كان زمنا ولّى، زمن الرسائل الورقية، والقطع المعدنية لمترو الأنفاق، وساعات السفر المنبّهة، ومعاملات بطاقات الائتمان التي كانت تتطلّب توقيعا على نموذج ورقي كربوني بعد تمريره في جهاز الطباعة البارز المعروف باسم ماكينة الدفع اليدوية (zip-zap). ولم تكن ساعة معصمك تتتبّع نومك وتمارينك الرياضية. ولم يكن هاتفك اللاسلكي يتعرّف على وجهك، ولم يكن بنكك يتحقّق من بصمة صوتك. ووجود سيارات بدون أنظمة استكشاف المواقع بواسطة التوابع الاصطناعية كان يعني أن السائقين يعتمدون على خرائط مطويّة بشكل سيئ. لا تتحسّر على الماضي: الخلاصة هي أن التحول الرقمي في المجتمع يعني أن الأنشطة التي لم يكن من السهل أبدا تحويلها إلى بيانات أصبحت الآن قابلة للتحويل.

ويتيح هذا الأمر إمكانية فهم الاقتصاد بطرق أدق تعكس الواقع الفعلي، أي تعكس الشيء الذي يجري قياسه. ويمكن بالتالي الإبلاغ بالبيانات بسرعة أكبر بكثير، وربما في وقت شبه آني، وبطرق أكثر تفصيلا، وصولا إلى شرائح صغيرة أو حتى إلى أفراد، وهي أمور لم تكن الأساليب القديمة قادرة عليها، إذ كانت تضغط المعلومات مثلما كانت فحوص الرنين المغناطيسي قبل عام 1990 تفعل. وتتحسّن الدقة والسرعة والتفاصيل. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يتغيّر ما يجري قياسه في حد ذاته، مما يؤدي إلى طرق جديدة لفهم العالم (وبذلك، نأمل في تحسينه).

ولكن الكيانات التي تجمع المعلومات ستأتي من القطاع الخاص، لأنه هو الذي ينتج البيانات في عملياته. فعلى سبيل المثال، يمكن للتصوير بالتوابع الاصطناعية تتبّع المحاصيل الزراعية. ويمكن لمواقع إعلانات الوظائف تحديد المناطق الحضرية التي تنمو بوتيرة أسرع من غيرها، في حين يمكن لمواقع بيع المنازل إظهار المناطق التي تشهد تراجعا. وفي كثير من الحالات، تجد الشركات نفسها وسط تدفّقات البيانات الناتجة عن عمليات جهات أخرى. وتتعامل شركة ADP، وهي شركة معالجة الرواتب، مع واحد من كل ستة من العاملين في الولايات المتحدة، ويستخدم الاقتصاديون تقريرها الشهري عن الوظائف لاستكمال البيانات الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل الأمريكي.

مؤشرات بديلة

قد لا تُعَد هذه المؤشرات البديلة (أو "البيانات البديلة") باستخدام الأساليب الأكاديمية الصارمة التي تتبعها الأجهزة الإحصائية الحكومية. والاستفادة من البيانات ستتطلب تحوّلا في تفكير الممارسين اليوم، إذ قد يحتاجون إلى إعادة تصور مسؤوليتهم، من توليد المعلومات إلى العمل مع القطاع الخاص لتعزيز نزاهة البيانات والتحقق منها حتى يمكن استخدامها لأغراض أعم. ويُذَكِّرُنا ذلك ببدايات هذا المجال. 

ويرجع أصل مصطلح الإحصاء بالإنجليزية (statistics) إلى الكلمة الألمانية "Statistik" التي صيغت في منتصف القرن الثامن عشر لتشير إلى "علم الدولة". وقد تستند هذه المقاييس إلى الاستدلال، أي التعميم انطلاقا مما يمكن قياسه بسهولة للوصول إلى استنتاجات بشأن ما يصعب معرفته. ولأنه كان من المكلف أو المستحيل في كثير من الأحيان عدُّ الأشياء نفسها، كانت الممارسة المقبولة هي إيجاد متغيرات بديلة واستكمالها بالاستقراء. وقد ميّز هذا المنهج الأيام الأولى للإحصاء. فقد كتب ويليام بيتي في بداية مقالة عن "الحساب السياسي" في ثمانينيات القرن السابع عشر بهدف تقدير السكان: "يبدو أن مدينة دبلن في أيرلندا بها مداخن أكثر من مدينة بريستول، وبالتالي فعدد سكانها أكبر".

وتنفق الاقتصادات المتقدمة اليوم مليارات الدولارات سنويا لإنتاج مؤشرات اقتصادية واجتماعية موثوقة. وبالنسبة لحرّاس المقاييس الرسمية، يمثل هذا نداء مقدسا وعلامة على التحضّر. وقد صرّح أولافي نيتامو، الذي رأس هيئة الإحصاء الفنلندية من 1979 إلى 1992، بالقول الشهير: "المعرفة قوة: الإحصاءات ديمقراطية".

والبيانات ليست سوى محاكاة لما تهدف إلى قياسه ووصفه وتسجيله. وهي تجريد، وليست الشيء نفسه، تماما كما أن الخريطة ليست هي الأرض، ومحاكاة الطقس لن تسبب لك البلل. وتحتوي البيانات على "حاصل معلومات" لما تصفه. ومع تغيّر العالم، يجب أن تتغيّر أيضا الإحصاءات التي يقيس بها علماء الاجتماع واقع الإنسان. وعلى الرغم من أن الفلاسفة الدنيويين تبنّوا أساليب أكثر جدية لترسيخ علم كئيب، فلا تزال المتغيرات البديلة وعمليات الاستكمال بالاستقراء غير الرسمية مستخدمة. 

البيانات السردية

اشتهر آلان غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي من 1987 إلى 2006، باعتماده ما يُعرف باسم "البيانات السردية"، وهي مزيج بين الحكاية والبيانات، للتفوق على المؤشرات الرسمية. وبوصفه اقتصاديا شابا، كانت من بين البيانات التي دقّق فيها مبيعات الملابس الداخلية الرجالية. وفي رأيه، تمثل هذه البيانات مؤشرا اقتصاديا متقدّما: فهي من الأشياء التي يقلّل الناس من شرائها عندما تشتدّ الأوضاع المالية.

وقد اتّبع خلفاؤه في الاحتياطي الفيدرالي نهجه. ففي بداية الأزمة المالية في عام 2008، وبعد أيام قليلة فقط من انهيار بنك ليمان براذرز، حذّرت جانيت يلين، التي كانت آنذاك رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، من تراجع اقتصادي حاد خلال اجتماع لجنة السوق المفتوحة التابعة للاحتياطي الفيدرالي. وقالت، وفقا لمحاضر الاجتماع التي نُشرت بعد خمس سنوات: "يشير جراحو التجميل وأطباء الأسنان في "إيست باي" إلى أن المرضى يؤجّلون العمليات الاختيارية." وأضافت: "لم تعد الحجوزات ضرورية في كثير من المطاعم الراقية." وضحك زملاؤها آنذاك.

كيف أدّى الجهاز الإحصائي عمله؟ في الربع الرابع من عام 2008، كان أول رقم صدر عن الولايات المتحدة هو انخفاض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 3,8%. وسرعان ما جرى تعديل التنبؤات بعد شهر إلى تراجع بنسبة 6,2%. وفي التعديل النهائي، في يوليو 2011، أُعيد حساب الرقم باعتباره انخفاضا قدره 8,9%، وهو أكبر خفض للتنبؤات مسجّل لإجمالي الناتج المحلي، وهو أكثر من ضعف ما أُعلن في البداية. وربما كان من شأن المؤشرات البديلة أن تساعد في هذا الأمر.

قد تكون مصادر البيانات الجديدة قد أدّت عملا أسرع وأفضل من المؤشرات القائمة، وبتفاصيل أكثر. فعلى سبيل المثال، كان بإمكان شركة ADP، المتخصصة في الرواتب، رصد انخفاض في عدد الموظفين الجدد وتباطؤ في زيادات الرواتب. وربما تكون عمليات البحث من خلال غوغل المتعلقة بشراء المنازل قد تباطأت بشكل حاد. وبالمثل، تمتلك مواقع إعلانات الوظائف المهنية مثل "لينكد إن" و"إنديد" رؤية واضحة لإعلانات التوظيف، سواء المنشورة منها أو التي يجرى سحبها. (ويستخدم المستثمرون هذه البيانات لأنها مؤشر مبكر على تعثر الأعمال وخفض المحللين لتقييماتهم، وبالتالي مؤشر لأسعار الأسهم.)

Loading component...

أداة للشفافية

أثناء الأزمات، قد تفشل المقاييس الرسمية بسبب فترات التأخر في الإبلاغ بالبيانات. وقد ازدهرت البيانات البديلة في بداية جائحة كوفيد-19. فقد قاس النظام العالمي لتحديد المواقع في هواتف أبل وأندرويد انخفاض ارتياد متاجر البيع، وكشف كذلك الأماكن التي خالفت أوامر الإغلاق العام. وبالمثل، خلال فترة إغلاق الحكومة الأمريكية في أكتوبر 2025، لم تتمكن الأجهزة الإحصائية من إصدار البيانات، فسدّ القطاع الخاص الفجوة. وقد قدّمت بيانات الاتجاهات العامة للتوظيف كل من شركة ADP وشركة كارلايل، وهي صندوق لاستثمار الأسهم الخاصة يدير 277 شركة تضم 730 ألف موظف.

وتُسهِم البيانات البديلة في مساءلة الحكومة. فقد أصبحت بيانات التضخم الرسمية في الأرجنتين مُبالغا فيها إلى حدّ كبير في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لدرجة أن مجلة الإيكونوميست استخدمت بدلا منها الأرقام الصادرة عن شركة "برايس ستاتس"، وهي شركة أسّسها اقتصاديان من كلية هارفارد لإدارة الأعمال ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وتتتبّع هذه الشركة تغيّرات في 800 ألف سعر يومي من بين 40 مليون منتج في 25 اقتصادا. ومع طرح تساؤلات حول نزاهة البيانات في الولايات المتحدة بعد إقالة الرئيس دونالد ترامب لرئيس مكتب إحصاءات العمل في أغسطس 2025 عقب صدور تقرير وظائف سلبي، يمكن للبيانات البديلة أن تكون أداة مستقلة للشفافية.

إن انفجار مصادر البيانات وتقنياتها الجديدة أمر له أهمية خاصة في الاقتصادات النامية التي تفتقر إلى القدرات المؤسسية والتمويل والمهارات والإرادة السياسية اللازمة لجمع الإحصاءات وتحليلها والإبلاغ عنها. وبالتفكير الإبداعي، يمكن لبيانات القطاع الخاص أن تُحدث تحولا. فعلى سبيل المثال، لا يستطيع كثير من الاقتصادات النامية تحمّل تكلفة معدات الأرصاد الجوية في المناطق النائية لقياس الظواهر الجوية مثل هطول الأمطار، للتحذير المسبق من الفيضانات. ولكن شركات تشغيل الهواتف المحمولة تمتلك أبراج اتصالات خلوية في أنحاء المناطق الريفية. وهذه الأبراج تتواصل باستمرار مع بعضها للحصول على معلومات الشبكة ولتمرير حركة الاتصالات. ومع ذلك، فإن قوة الإشارة تضعف أثناء المطر، مما يجعلها مفيدة لقياس هطول الأمطار. وهناك حاجة إلى مزيد من هذا النوع من الإبداع للتغلّب على فجوات البيانات في الأماكن الفقيرة. 

ومع ذلك، فإن إنشاء مؤشرات أكثر دقة وتفصيلا وأدق توقيتا لا يعني الكثير إذا لم تكن هناك وسيلة لاستخدامها بفعالية. فقد قال غرينسبان في مقابلة أجريتها معه عبر البريد الإلكتروني في عام 2014: "ما لم نُسرّع وتيرة التنفيذ بالتزامن، سيكون استخدام "البيانات الكبيرة" محدودا". 

عالم جديد شجاع

علاوة على ذلك، فالمخاطر تتجاوز الحاجة إلى تحسين ما هو قائم أو سدّ الفجوات المعروفة. فتحويل الأنشطة إلى بيانات، وهي أنشطة لم تُحوَّل من قبل إلى شكل قابل للتمثيل بالبيانات، يوفّر فرصة فريدة لمعرفة أشياء جديدة عن العالم. ولا يزال المجتمع في بدايات تحوّل كبير في الفهم. 

ويمثّل "الرسم البياني الاقتصادي" الصادر عن منصة "لينكد إن" بُعدا مبكرا من هذا التحوّل. فهو يقيس أنشطة عمل 1,2 مليار شخص، و67 مليون شركة، و15 مليون وظيفة، و41 ألف مهارة، و133 ألف مدرسة. وتستخدم العديد من البلدان هذه البيانات للإجابة عن أسئلة مثل: "ما المهارات التي تنمو بأسرع وتيرة؟ وما الأماكن التي تكتسب وظائف أو تفقدها؟ وما مدى صعوبة الانتقال إلى مهنة أخرى في منتصف المسار الوظيفي حسب المهنة؟ وفي أي مجالات الأنشطة والبلدان تتولّى النساء مناصب قيادية عليا؟" ولم يكن من الممكن تتبّع هذه المعلومات وتحليلها ومقارنتها حتى الآن.

وعلى الرغم من أن هذا التحليل العميق لمعلومات الناس الشخصية قد يبدو مهدِّدا للخصوصية، فهو لا ينبغي أن يكون كذلك. فأساليب معالجة البيانات المتقدمة -ذات الأسماء "الفضائية" مثل التعلّم الموحّد والتشفير المتماثل والحوسبة الآمنة متعددة الأطراف والخصوصية التفاضلية- تسمح بتحليل البيانات المُشفّرة، بحيث لا تكون السجلات الفعلية مرئية لمعاِلج البيانات. ولا يزال النظام في مراحله الأولى لأنه يصعب تنفيذه. لكن الشركات والمكاتب الإحصائية بدأت في تجربته بالفعل.

وبالطبع، هناك حدود لاستخدام "بيانات العالم الحقيقي" المأخوذة من الشركات. فهي غالبا ما تكون على شكل عادم بيانات، أي أنها منتج ثانوي لأنشطة الأعمال المعتادة للشركة، وهي لذلك ستحتوي على التحيّزات الخاصة بذلك السياق. فشركات كارلايل قبلت مالكا من شركات الأسهم الخاصة (ولذلك ربما لم تكن الأقوى)؛ ومن المرجّح أن يكون لدى "لينكد إن" عدد من المهنيين أكبر من أفراد الطبقة العاملة (ولذلك قد تميل نحو الشرائح الأكثر ثراء)؛ أما شركة ADP فتلتزم الصمت بشأن الاقتصاد الرمادي الذي يشمل مربيات الأطفال، وعمال تنظيف المنازل، وعمال غسل السيارات، وما إلى ذلك (الذين قد تمثل أعدادهم مؤشرات أقوى على صحة الاقتصاد).

وعلاوة على ذلك، لا يمكن الاعتماد على البيانات البديلة بالكامل إذا لم يكن من المؤكّد أنها ستكون متاحة دائما. فعلى سبيل المثال، أنتجت شركة البرمجيات الأمريكية "إنتويت" مؤشرا للشركات الصغيرة استنادا إلى بيانات إجمالية من برنامج المحاسبة "كويك بوكس" الخاص بها. ولكنها أوقفت هذه التقارير في عام 2015، قبل أن تعيد إطلاقها بمنهجية مختلفة وأقوى في عام 2023. ولذلك، فالمستقبل لن يستند إلى البيانات البديلة وحدها، بل إلى المصادر الرسمية وغير الرسمية المكمّلة لها. ومع ذلك، فهذا عالم جديد شجاع. 

مقاييس حديثة

يعيدنا ذلك إلى التصوير بالرنين المغناطيسي. فتاريخ التصوير بالرنين المغناطيسي يعود إلى عام 1974، عندما سجل رايموند داماديان من جامعة ولاية نيويورك براءة اختراعه باعتباره وسيلة غير جراحية للكشف عن السرطان. وفي العام نفسه، شهدت الولايات المتحدة ركودا حادا، مما ألهم اقتصاديا من جامعة ييل ومستشارا سابقا في البيت الأبيض، هو آرثر أوكون، لابتكار مؤشر جديد يرصد أثر الركود على الأفراد، وليس على الوحدة المجرّدة للاقتصاد ككل. 

وأصبح مؤشر المشقة الاقتصادية الذي ابتكره -والذي أُطلق عليه لاحقا اسم "مؤشر البؤس"-عنصرا أساسيا في السياسة الأمريكية. وقد استخدمه رونالد ريغان لهزيمة الرئيس جيمي كارتر في انتخابات عام 1980. ولكنه ببساطة حاصل معدّلَي البطالة والتضخم. ومن السهل تخيّل مقياس حديث يناسب عصر الذكاء الاصطناعي.

وسيجمع هذا المؤشر كل الطرق التي قد يعبّر بها الناس عن مشقتهم، بدءا من أنماط الإنفاق المتغيّرة، ليس بشراء عدد أقل من الأشياء (وهو رقم خام لا يعكس التفاصيل)، بل بالتحوّل فعليا من تناول شرائح اللحم إلى وجبة "حساء النودلز". وكذلك الحال بالنسبة لفواتير الخدمات غير المدفوعة ومدفوعات السيارات المتأخرة. ثم حوادث الغضب على الطرق، والقيادة المتهورة، والتصادمات الطفيفة؛ ليست على نحو إجمالي، بل بتتبع الشخص نفسه. ويمكن لساعات آبل تتبّع جودة النوم ومستويات التوتر خلال اليوم. كما أن كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة في الشوارع والمتاجر والمكاتب التي تمتلك تقنية التعرّف على الوجوه يمكنها تسجيل مشاعر الأفراد. ويمكن للمراحيض المزوّدة بأجهزة استشعار حيوية تتبّع مستويات الهرمونات التي ترتفع في لحظات القلق لدى المستخدمين مثل الكورتيزول والإبينفرين. 

هذا أقرب ما يكون إلى الحقيقة. وربما تبدو هذه الإحصاءات الخيالية العلمية للكثيرين تجسيدا حقيقيا للشقاء: فانعكاساتها على الخصوصية مرعبة، حتى لو كان من الممكن، نظريا، إخفاء هوية صاحب البيانات. ومع تسلح الدولة بمثل هذه المعلومات، أليس من الواجب عليها أن تتدخل لمساعدة الأفراد وحماية المجتمع؟ وكما قال تي. إس. إليوت متحسّرا: "وأيُّ مغفرة تُرتجى بعد هذه المعرفة؟"

ولن تظهر هذه البيانات البديلة قريبا، إن ظهرت أصلا. فالتحوّلات الفكرية لا تتمّ إلا عندما يرحل المدافعون عن النماذج القديمة عن الساحة، واحدا تلو الآخر. ويتنامى العداء تجاه عمالقة التكنولوجيا مع تزايد حذر الجمهور من الاستخدام غير المقيّد للبيانات وتراجع التفاؤل الذي ميّز بدايات الإنترنت. ومن المأمول أن يمتلك علماء الاجتماع اليوم العناية والأخلاقيات ومرونة التفكير الكافية للاستفادة من أفضل ما في الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة وتجنّب نقائصهما. ففي النهاية، لم يعد أخصائيو الأشعة بحاجة إلى الرؤية "الكلاسيكية" في فحوص الرنين المغناطيسي.

كينيث كوكيير هو نائب المحرّر التنفيذي في مجلة الإيكونوميست ومؤلف مشارك لعدة كتب عن البيانات والمجتمع.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.

أحدث المجلات للتمويل والتنمية
ديسمبر 2025
سبتمبر 2025