لماذا ينبغي إتاحة البيانات

ديسمبر 2025

الصورة: Chantal Jahchan

الابتكار الاقتصادي قد يتراجع في عصر الذكاء الاصطناعي في غياب قواعد تسمح بالوصول إلى البيانات

يتميز موقع غوغل بمهارة فائقة في تخمين ما يقصد المستخدمون كتابته في محرك بحثه من خلال إدخال استفسارات تتضمن أخطاء هجائية.

ولأنه لا يستطيع التخمين، فقد درّب عملاق الإنترنت مُدققه اللغوي قبل نحو 20 عاما على مليارات الأخطاء الطباعية التي وقع فيها المستخدمون أثناء البحث. ولم يستطع أي منافس الاقتراب من مستواه، إذ لم يكن لدى أي موقع آخر إمكانية الوصول إلى مثل هذه الكميات الهائلة من البيانات ذات الصلة. ويستأثر غوغل اليوم بما يصل إلى 9 من كل 10 عمليات بحث على الإنترنت، ويواجه قيودا جديدة بعد صدور حكم مؤخرا بشأن مكافحة الاحتكار.

ويُعرف استخدام البيانات بغرض الابتكار، كما فعلت شركة غوغل، بأنه "الأثر المرتد". وتستفيد شركات التكنولوجيا الكبرى من ذلك بشكل كبير لأنها تتمتع بالقدرة على الوصول إلى معظم البيانات، فيمكنها معالجتها في مراكز البيانات الخاصة بها، وتحويلها إلى رؤى متعمقة، واستخدامها لتحسين منتجاتها وخدماتها.

ويُعزز الذكاء الاصطناعي الأثر المرتد ويُوسّع الفجوة بين من يملكون البيانات ومن لا يملكونها. ويتطلب تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وضبطها كميات هائلة من المعلومات وقوة معالجة هائلة، وهي متوافرة بكثرة لدى منصات الإنترنت الكبرى. وما لا يملكونه، يمكنهم شراؤه بمبلغ هائل من رأس المال سعيا للاستثمار في الذكاء الاصطناعي.

إن عواقب الهيمنة واضحة. حيث تستحوذ ست شركات من شركات التكنولوجيا الكبرى - ألفابيت (غوغل)، ونتفليكس، وميتا، وآبل، وأمازون، ومايكروسوفت - على ما يقرب من نصف حركة الإنترنت في العالم. وتهيمن أربعة من هذه الشركات - ألفابيت، ومايكروسوفت، وميتا، وأمازون - على القدرة الحاسوبية للذكاء الاصطناعي.

ومع زيادة البيانات التي تؤدي إلى تحسين المنتجات والخدمات، تجذب أكبر الشركات المزيد من العملاء، مما يُولّد مزيدا من البيانات. ويؤدي الأثر المرتد إلى ديناميكيات داعمة لذاتها بشأن تركز السوق، بحيث لا يستطيع المنافسون الأقل ثراء بالبيانات الانضمام إليها.

تأثيرات التركز

لطالما شعر الاقتصاديون بالقلق بشأن تأثيرات التركز. وكما ذكر جوزيف شومبيتر عام ١٩٤٢، تشير وفورات الحجم والنطاق إلى أن الشركات الأكبر حجما تُنتج بتكلفة أقل مقارنة بمنافسيها الأصغر حجما، مما يؤدي إلى زيادة المبيعات وتحديد الأسعار وتحقيق الأرباح لذاتها. والابتكار هو أفضل علاج للتركز، فالأفكار الأفضل تؤدي إلى منتجات مُحسّنة، بل وحتى جديدة تماما. وهو أمرٌ بالغ الأهمية للديناميكية الاقتصادية.

ومع ذلك، تزداد صعوبة تحدي الشركات التقليدية للمؤسسات المهيمنة على اقتصاد البيانات. وغالبا ما تفتقر هذه الشركات إلى قوة المعالجة والمهارات الفنية، ولكن الأهم هو عدم وجود تكوين ذهني قائم على البيانات، أي إدراك أن استخدام البيانات يخلق قيمة. وكثير من الشركات التقليدية تقوم بجمع البيانات لكنها لا تستخدمها على الوجه الأكمل؛ إذ تشير المسوح إلى أن 80% على الأقل مما يُجمع عالميا لا يُستخدم إطلاقا. إن الشركات التي تجمع البيانات ولا تعرف كيفية استخدامها ترى قيمة مواردها الرقمية تتلاشى. فقدرتها على الابتكار تتراجع وتتأخر كثيرا عن ركب الشركات الأكثر معرفة في مجال البيانات.

ولا يقتصر تراجع الابتكار على الشركات التقليدية فحسب، بل تتضرر منصات البيانات المهيمنة أيضا في نهاية المطاف. وقد أشار اقتصاديون، مثل أوفوك أكجيت من جامعة شيكاغو إلى أن الشركات غالبا ما تفقد اهتمامها بالابتكار بمجرد هيمنتها على السوق، وبدلا من ذلك، تعطي الأولوية لحماية حصتها السوقية. وبدون منافسة قوية، لن تحتاج بعد ذلك إلى الابتكار للبقاء في الصدارة. وكما يقول الكاتب كوري دكتورو، يمكنها بدلا من ذلك إضعاف عروضها مع الحفاظ على حصتها الكبيرة في السوق.

إن خطر تركز البيانات وفقدان الديناميكية الاقتصادية أمر خطير بما يكفي لتبرير استحداث سياسات تحول دون وقوع هذه المحنة، أو على الأقل تخفف من حدتها. ولكن تحديد أفضل طريقة للتدخل من خلال السياسات أمرٌ شائك.

Loading component...

تنظيم المنافسة

إن استخدام قواعد مكافحة الاحتكار وتنظيم المنافسة لتفكيك منصات البيانات الكبيرة يعالج أعراض تركز البيانات ، ولكنه لا يعالج أسبابه. فعلى سبيل المثال، إذا فككت السلطات منصة "ميتا"، فمن المرجح أن تحل محلها منصة كبيرة أخرى. ولأنها لا تغير الديناميكية الأساسية، فهي تكافئ بذلك تلك التي تستطيع الوصول إلى أكبر قدر من البيانات واستخدامها.

وعلى غرار ذلك، فإن السياسات التي تمنح الأفراد مزيدا من السيطرة على بياناتهم - مثل اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي - عادة ما تخفق في مواجهة تركز البيانات. وتشير المسوح إلى اهتمام الكثيرين ببياناتهم الشخصية، لكن القليلين منهم يمارسون حقهم في السيطرة عليها. ويشير هذا إلى مشكلة الإجراء الجماعي إذ يجب على الأشخاص قضاء وقتهم في تنظيم مسألة الوصول إلى بياناتهم، لكنهم لا يحصلون سوى على منافع محدودة في المقابل، مع أن هناك منافع تعود على الجميع. فكل طرف يتنظر من الآخر أن يتصرف، ولا شيء يحدث، فالمنصات القوية تواصل استخدام البيانات كما يحلو لها.

والسياسات التي تمنح الملكية القانونية أو ما شابهها من الحقوق الحصرية بشأن البيانات تواجه عقبات مماثلة في الواقع العملي. ونظرا لتعقيد عملية الترخيص، قد تؤدي هذه السياسات إلى الحد من حجم البيانات التي يسهل الوصول إليها بشكل عام، مما يؤثر سلبا على الابتكار. وعلاوة على ذلك، تكاليف المعاملات غير موزعة بالتساوي؛ وتشكل المفاوضات المعقدة بشأن تراخيص الاستخدام عبئا على الأفراد والشركات البادئة الصغيرة أكثر من سواها، وهو ما يرجح ميل الفرص بشكل أكبر نحو المنصات الكبيرة.

ولكن اللوائح التنظيمية التي تسمح بالوصول إلى البيانات، وخاصة البيانات غير الشخصية تقدم وعودا أكبر. وإذا صُممت بمهارة، يُمكنها خفض تكاليف المعاملات - دون الحاجة إلى التفاوض بشأن التراخيص - مما يُساعد الشركات الأصغر على الحصول على البيانات. وإذا كان بإمكان حائزي البيانات استخلاص القيمة فقط باستخدام البيانات ذاتها، فإن ذلك يحفز من يملكونها على استخدامها، مما يحفز مزيدا من الشركات التقليدية على اكتساب معرفة أكبر في مجال البيانات. وتسهم هذه القواعد في تعزيز استخدام البيانات - وهو ما يفتقر إليه السوق حاليا- بدلا من جمع البيانات.

تكوين الأفكار والابتكار

إن للابتكار منافع أيضا. ويمكن للجهات الفاعلة المتعددة تطبيق أفكارها على البيانات، بما يسمح بمكافأة عملية تكوين الأفكار، لا اكتناز البيانات. وتلتزم تفويضات الوصول إلى البيانات أيضا بشكل أوثق بالمبادئ الاقتصادية لتوليد القيمة، ويكمن السر غالبا في التطبيق الذكي للبيانات، أو استخدامها، لا في جمعها. وفي تصوير مجازي من العصر الصناعي، يمكننا قول إن تفويضات الوصول إلى البيانات تسهل استخلاص القيمة بدلا من حيازة المواد الخام.

وكما أوضحتُ أنا وتوماس رامج في كتابنا الصادر عام ٢٠٢٢ بعنوان "Access Rules"، تفويضات الوصول إلى البيانات قد تبدو مفهوما جديدا، لكنها ليست كذلك. إن الحكومات في أنحاء العالم مُلزمة قانونا بالفعل بتوفير إمكانية الوصول إلى بيانات قيِّمة. وأفضل مثال على ذلك هو بيانات الموقع التي يوفرها النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS)، الذي يديره الجيش الأمريكي، ونظام غاليليو التابع للاتحاد الأوروبي. إن إتاحة بيانات دقيقة وإن كانت مجانية عن المواقع، لم يُحسّن سلامة الطائرات والسفن والسيارات فحسب، بل أتاح أيضا ترتيبات لوجستية أكثر كفاءة واستدامة. وقد أدى ذلك إلى نشأة صناعة بمليارات الدولارات.

والقوانين في كثير من مناطق الاختصاص تلزم الشركات بنشر بيانات مُعينة، بدءا من النتائج المالية وحتى بيانات الانبعاثات. وفي الاتحاد الأوروبي، يجب على المنصات الرقمية الكبيرة الآن إتاحة بعض البيانات للمنافسين الأصغر. وفي الولايات المتحدة، في الوقت ذاته، ألزمت عمليات تسوية مكافحة الاحتكار الشركات مرارا وتكرارا بالسماح لمنافسيها بالوصول إلى بياناتها. واضطرت غوغل إلى القيام بذلك مؤخرا في إطار محاكمة تتعلق بمكافحة الاحتكار. ولكن القضية الأكثر إثارة (والتي كثيرا ما نغفلها) تُعزى إلى تسوية لمكافحة الاحتكار في خمسينات القرن الماضي، والتي ألزمت شركة AT&T بالسماح للشركات الأمريكية باستخدام براءات اختراع الترانزستور الخاصة بها مجانا. وقد اغتنمت الشركات البادئة هذه الفرصة، فقامت بتصميم وتصنيع الدوائر المتكاملة - الأمر الذي أدى في الأساس إلى اعتماد سيليكون فالي والعصر الرقمي على الذات في خروجهما إلى العالم.

وعلى نطاق أوسع، فإن الآلية الأساسية ذاتها لنظام براءات الاختراع في أغلب البلدان تعتمد على الوصول المجاني إلى المعلومات، ولا يحصل أصحاب براءات الاختراع على حق الاستخدام الحصري لاختراعاتهم إلا لفترة محدودة، وإذا أتاحوا للآخرين إمكانية الاطلاع على تفاصيل اختراعاتهم حتى يتسنى لهم التعلم منه.

ولن تتزايد القيمة التي يمكن أن تولّدها البيانات من خلال دعم الابتكار إلا مع تحوّل العالم نحو اقتصاد بيانات شامل. ولسوء الحظ، سيعزز هذا أيضا ديناميكيات التركز التي تترتب عليها تداعيات عابرة للحدود وتنتشر على مستوى الاقتصاد ككل. وقد اقتُرِحَ كثير من التدخلات من خلال السياسات، والذهنية القائمة على البيانات تنطوي على أكبر الإمكانات الواعدة.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.

أحدث المجلات للتمويل والتنمية
ديسمبر 2025
سبتمبر 2025