تنزيل ملف PDF

 

النماذج الاقتصادية الجديدة يمكن أن تساعد صناع السياسات على تحقيق فهم أفضل لآثار ما يتخذونه من تدابير لترويض التضخم

كثير من جوانب التضخم الحالي ليس مفهوما تماما: لماذا تضررت بعض الأسر بشدة في حين أن أسرا أخرى لا تكاد تشعر بأثره بل ربما تستفيد منه؟ كيف تأثرت المعركة ضد التضخم بتُخمة المدخرات والمدفوعات الحكومية التي أتت بها الجائحة؟ ما أهمية صدمات العرض ذات الصلة بالجائحة والغزو الروسي لأوكرانيا؟

إن الأهداف المتطورة للسياسة النقدية تزيد من صعوبة فهمنا للتضخم، فطالما ركزت السياسة النقدية على السيطرة على التضخم من خلال تحقيق الاستقرار على مستوى الطلب الكلي. ولكن في الآونة الأخيرة وسّعت البنوك المركزية من نطاق أهدافها لتشمل الاستقرار المالي والمخاطر المناخية والجغرافية-السياسية والاشتمال الاجتماعي.

وتسهم نماذج الاقتصاد الكلي بدور رئيسي في المساعدة على اجتياز هذا المشهد المعقد. فالنماذج تساعد صناع السياسات على تفسير الملاحظات التجريبية بشأن حالة الاقتصاد، وتشير إلى الكيفية التي ستؤثر بها مرتكزات السياسات المختلفة على أهدافهم، ومن ثم تكون مرشدا لقراراتهم بشأن السياسات. وتقيس النماذج الكمية نقاط القوة المختلفة المؤثرة، وتساعد على تقييم المفاضلات بين الأهداف المتنافسة.

غير أن النماذج التقليدية تتغاضى عن أوجه عدم المساواة في الدخل والثروة، وتفترض أن ما يعود بالنفع على المستهلك التقليدي، حسب تعريفه في النماذج، لا بد أن يعود بالنفع على الاقتصاد ككل.

وهناك فئة جديدة من النماذج الكمية ملائمة بشكل خاص لإرشاد القائمين على البنوك المركزية في هذه الأجواء الجديدة على السياسة النقدية حيث يمثل توزيع الثروات والدخل اعتبارا أساسيا. وتَجمع النماذج المعروفة باسم النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين (HANK models) بين نماذج الوكلاء غير المتجانسين (المرتكز الرئيسي لخبراء الاقتصاد الكلي في دراسة توزيعات الدخل والثروة) وبين النماذج الكينزية الجديدة (الإطار الأساسي لدراسة السياسة النقدية والتغيرات في الطلب الكلي).

وتقدم "النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين" دروسا جديدة عن إعادة التوزيع والتأثيرات غير المتجانسة للسياسة النقدية، وتسلط ضوءا جديدا على الأهداف التقليدية للبنوك المركزية بشأن السيطرة على التضخم وتحقيق الاستقرار على مستوى الناتج. وفيما يلي أربعة دروس عامة وبعض الأفكار الأولية عن الكيفية التي يمكن أن توضح من خلالها هذه النماذج معالم بيئة التضخم المرتفع التي نعيشها حاليا.

الدرس 1: التنبؤ بالتأثيرات غير المباشرة للسياسة

علمتنا "النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين" كيف تؤثر السياسة النقدية على الإنفاق الاستهلاكي للأسر، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. والقنوات المباشرة هي تلك التي يمكن عزوها مباشرةً إلى تغيُّر أسعار السياسة النقدية قصير الأجل، مثل قرارات المستهلكين بتأجيل المشتريات عند ارتفاع أسعار الفائدة. وتنشأ القنوات غير المباشرة من خلال تأثير سعر السياسة النقدية على أسعار الفائدة الأخرى (مثل أسعار السندات والقروض العقارية)، وأسعار الأصول (مثل المساكن والأسهم)، وتوزيعات الأرباح والأجور، والضرائب الحكومية، والتحويلات.

ويعتمد الحجم النسبي للقنوات غير المباشرة مقارنةً بالقنوات المباشرة اعتمادا أساسيا على مجمل الميل الحدي إلى الاستهلاك، والذي يُستخدم لقياس مقدار ما تنفقه الأسرة من دخلها الزائد وقياس ما تدخره أيضا. وفي النماذج التقليدية التي تحاول التنبؤ بتأثير السياسة النقدية على المستهلك العادي، يكون الميل الحدي إلى الاستهلاك ضئيلا، وبالتالي تكون القنوات غير المباشرة غير ذات أهمية. وبدلا من ذلك، صُمِّمت النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين على نحو يتسق مع الأدلة التجريبية على سلوك الاستهلاك والادخار. ويكون فيها مجمل الميل الحدي إلى الاستهلاك أكبر بنحو 10 مرات، وبالتالي فإن مختلف التأثيرات غير المباشرة تهيمن على آلية انتقال الآثار.

ماذا يعني هذا بالنسبة للسياسة النقدية؟ من خلال عدسة النماذج القديمة، فإن كل ما يحتاج البنك المركزي إلى معرفته للتنبؤ بالاستجابة للاستهلاك الكلي هو تقدير لمَعْلَم واحد، وهو رغبة المستهلك في تأجيل المشتريات عندما ترتفع أسعار الفائدة ("المرونة الإحلالية عبر الفترات الزمنية"). ولكن مع النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين، تحتاج البنوك المركزية إلى معلومات أكثر دقة حول الجانب المتعلق بالأسر ضمن الاقتصاد، وتحتاج أيضا إلى صورة كاملة لتوزيع الميول الحدية للاستهلاك، ومصادر الدخل، ومكونات الميزانيات العمومية للأسر. بالإضافة إلى ذلك، فإن أهمية القنوات غير المباشرة تعني أن انتقال آثار السياسة النقدية يتم من خلال تلك الآليات التي تسهم في تكوين أسعار السلع والمدخلات والائتمان والمساكن والأسواق المالية. ولذلك تحتاج البنوك المركزية إلى فهم عميق لهياكل السوق واحتكاكاتها، فضلا عن المؤسسات التي تسهم بأدوار رئيسية في هذه الظروف، مثل الحكومات المحلية والنقابات والأجهزة التنظيمية.

الدرس 2: بعض السفن يطفو إلى الأعلى والبعض الآخر يغرق

تتلخص النظرة التقليدية للسياسة النقدية في أن "المدّ إذا ارتفع ترتفع معه كل السفن"، غير أن النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين ترى أن هذا الأمر محض خيال.

فالعديد من قنوات انتقال أثر السياسة النقدية لها تأثيرات متباينة، ومتعارضة أحيانا، على الأسر المختلفة. فعلى سبيل المثال، تتوقف التأثيرات المباشرة لتغيرات أسعار الفائدة على الميزانيات العمومية للأسر. فانخفاض أسعار الفائدة يعود بالنفع على المدينين الذين تنخفض مدفوعاتهم للفائدة (مثل الأسر المعيشية التي لديها قروض عقارية بأسعار فائدة قابلة للتعديل)، ويضر بالمدخرين الذين ينخفض دخلهم من الفائدة. وللسياسة النقدية أيضا تأثيرات غير متجانسة من خلال أثرها على التضخم: أولا: يعود التضخم بالنفع على الأسر ذات الديون الاسمية الكثيرة التي يعاد تقييمها بالتخفيض. ثانيا: ترتفع أسعار بعض السلع مقارنةً بسلع أخرى، وتستهلك أسر مختلفة هذه السلع بنسب غير متساوية. وأخيرا: فإن التأثيرات غير المباشرة للسياسة النقدية ليست متساوية على دخل الأسر المتاح، وهو ما يرجع إلى أن بعض الأسر تتعرض أكثر من غيرها لتقلبات النشاط الاقتصادي الكلي.

وفي النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين، لا تقتصر أهمية قنوات إعادة التوزيع هذه على دورها في فهم هوية الرابحين والخاسرين في السياسة النقدية، بل أيضا لأنها في صميم كيفية عمل السياسة النقدية، أي أن إعادة التوزيع تُحدد تأثيرها الكمي على مجملات الاقتصاد الكلي. وبقدر ما تقوم القنوات الموضحة أعلاه بإعادة التوزيع من الأسر ذات الميول الحدية المنخفضة للاستهلاك إلى الأسر ذات الميول الحدية المرتفعة للاستهلاك (من المدخرين إلى المنفقين)، يتعاظم الأثر الاقتصادي الكلي للسياسة النقدية. وتختلف أيضا آثار إعادة التوزيع باختلاف البلدان. فمثلا، تزداد قوة هذه الآثار في البلدان التي ترتفع فيها معدلات الفقر أو عدم المساواة، مما يؤدي أيضا إلى اختلاف في انتقال أثر السياسة النقدية بين الاقتصادات المتقدمة والبلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. فالنماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين تجبرنا على ترك الخيال، حتى يمكننا الفصل بوضوح بين تحقيق الاستقرار وإعادة التوزيع.

الدرس 3: البصمة المالية لها أهميتها

هناك مفهوم خاطئ آخر منتشر على نطاق واسع، وهو الرأي القائل بأن السياسة النقدية يمكن فصلها عن سياسة المالية العامة.

ومن خلال تعريف عدم المساواة في الدخل والثروة، تعيد النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين إرساء رابط قوي بين الاثنين، موضحةً كيف تترك السياسة النقدية "بصماتِ مالية" مهمة. فعندما يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة تزداد تكاليف الاقتراض على الخزانة، ويتعين تمويل الزيادة من خلال زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل، أو من خلال التضخم في المستقبل. وفي النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين، فإن الآثار الكلية لارتفاعات أسعار الفائدة تتأثر تأثرا هائلا بتفاصيل التوقيت وكيف ومتى يمكن للحكومة أن تعويض هذا العجز المالي، ونوعية الأسر التي تتحمل العبء.

وهكذا، فإن البصمة المالية للسياسة النقدية تُحقق المزيد من إعادة التوزيع، مما يتسبب بدوره في تضخيم الصدمة أو تخفيفها، تبعا لما إذا كانت تُحوِّل الموارد من المدخرين إلى المنفقين أو العكس. ويؤدي هذا العام إلى الحفاظ على رابطة لا تنفصم بين البنوك المركزية والخزانات. فكلما زاد الدين الذي تدين به الحكومة وقَصُر أجله، كانت البصمة المالية أكبر.

وبشكل أعم، تمثل هذه النماذج الجدية أيضا بيئة طبيعية لدراسة آثار سياسة المالية العامة على الكفاءة الإنتاجية الكلية، ودرجة التأمين الاجتماعي، ومدى إعادة التوزيع بين الأسر.

الدرس 4: الأداة الصحيحة لإعادة التوزيع

ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لواقع السياسة النقدية؟

تتفق الدراسات المعنية بالسياسة النقدية والمالية المُثلى في النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين على أن منافع الاستقرار الكلي تتضاءل أمام مكاسب التخفيف المباشر من حدة المعاناة. والسياسات المثلى في هذه النماذج تفضِّل بشكل يكاد يكون دائما أن توجَّه إعادة التوزيع إلى الأسر التي تعيش على الكفاف في فترات الهبوط الاقتصادي.

وقد يميل المرء إلى فهم هذا على أنه تأييد لاستخدام السياسة النقدية في تقاسم ثمار الرخاء والتخفيف من حدة الشدائد. بيد أن السياسة النقدية أداة حادة لإعادة التوزيع أو التأمين. والنماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين تخبرنا بأن سياسة المالية العامة أكثر ملاءمة على الأرجح لهذا الغرض، لأنها قد تكون أكثر دقة في استهداف المحتاجين للدعم.

موجة التضخم الحالية

تُعد حالة التضخم الحالية مثالا جيدا لاستكشاف المواضع التي يمكن أن تكون فيها النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين مفيدة لتحليل الاقتصاد الكلي وتقديم المشورة بشأن السياسات.

وتبين النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين أن تأثير صدمة الاقتصاد الكلي على الإنفاق الكلي يكون أكبر كلما زادت قوة الارتباط بين ميول الأفراد الحدية للاستهلاك وتعرضهم للصدمة. وفي البيئة الاقتصادية الحالية، يعني هذا أن فهم الانعكاسات التوزيعية للتضخم على الأسر تكتسب أهمية بالغة في قياس انعكاساته الكلية. وتستهلك الأسر مجموعات مختلفة من السلع والخدمات، مما يجعل بعضها أكثر حساسية للتضخم من غيرها. فعلى سبيل المثال، الأسر الفقيرة التي تنفق نسبة كبيرة من دخلها على السلع الأولية، مثل الطاقة، يلحق بها ضرر أكبر في هذه الحالة. ويستفيد المقترضون مع هبوط القيمة الحقيقية لديونهم، في حين تخسر الأسر التي تمتلك مبالغ نقدية كبيرة أو مدخرات سائلة. ويمكن للعمال ذوي الأجور المرنة نسبيا (بسبب العلاوات والعمولات، على سبيل المثال) الحد من خسارة قوتهم الشرائية، بينما تتقلص الدخول الحقيقية للعمال الذين تخضع أجورهم الاسمية للتفاوض على نحو غير متكرر أو أولئك الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور.

وتعلَّق أهمية بالغة على مستوى مدخرات الأسر الذي يؤثر على كيفية تأثير تغير أسعار الفائدة على الاستهلاك. ومن المهم بالمثل توزيع المدخرات على السكان وارتباطه برغبة الأسر في الإنفاق. فمثلا، تتركز معظم المدخرات الزائدة التي نشأت عن القيود التي فرضتها الجائحة على الاستهلاك (مثل انخفاض مستوى الإنفاق على السفر وتناول الوجبات في المطاعم) في أيدي ميسوري الحال، وبالتالي يتم إنفاقها بمعدل منخفض للغاية. أما المدخرات الزائدة التي تراكمت من برامج التحويلات الحكومية الكبيرة خلال عامي 2020 و2021، فيتركز معظمها في الأسر منخفضة الدخل ويتم إنفاقها على نحو أسرع بكثير. ومعدل الإنفاق السريع يدعم الطلب الكلي ويضع معوقات أمام جهود البنك المركزي لكبح التضخم.

وأخيرا، فإن أي تقييم كامل لآثار موجهة التضخم الحالية على الرفاه لا يمكن أن يتجاهل أسبابه. ولا توجد إجابات واضحة حتى الآن بشأن الأهمية النسبية لصدمات العرض (بسبب جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا)، والتحفيز المالي الكبير في عامي 2020 و2021، والسياسة النقدية التيسيرية خلال هذا العقد منذ آخر موجة ركود. وكان لكل عامل من هذه العوامل مكونات توزيعية وآثار غير متجانسة يتعذر فهمها ضمن قيود النماذج التقليدية. وسيساعدنا استخدام النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين على فهم الآثار الكاملة لهذه الموجة في التاريخ النقدي.

غريغ كابلان أستاذ في قسم كينيث غريفين للاقتصاد بجامعة شيكاغو.

بنجامين مول أستاذ اقتصاد بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

جيوفاني فيولانتي أستاذ كرسي تيودور ويلز 29 للاقتصاد بجامعة برينستون.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.