التنبؤ بالحاضر في الاقتصادات النامية

جيف كيرنز

ديسمبر 2025

الصورة: John Hersey

مؤشرات أكثر حداثة وتواترا بفضل التنبؤ الآني ومصادر البيانات الجديدة

بدأ تييري كاليسا في استخدام البيانات الجديدة منذ عقد مضى لإعداد التوقعات الاقتصادية اللحظية، أو ما يُعرف باسم "التنبؤ الآني"، ولكن الجائحة جاءت لتلقي المزيد من الضوء على إمكانات هذه البيانات.

وبصفته مسؤولا بوزارة المالية الرواندية في الوقت الذي داهمت فيه جائحة كوفيد العاصمة كيغالي، تعاون كاليسا ضمن فرقة عمل مشتركة مع البنك المركزي لمراقبة الانهيار الاقتصادي الحاد في ظل أول إغلاق عام تشهده إفريقيا جنوب الصحراء. وسرعان ما تحولت المؤشرات الاقتصادية الرسمية إلى بيانات بالية، حتى قبل نشرها.

وقد أطلقت المجموعة مؤشرا أسبوعيا للنشاط الاقتصادي يستند إلى مقياس صادر عن البنك المركزي يتضمن عوامل مثل الصادرات والواردات، بالإضافة إلى بيانات الإنفاق الاستهلاكي اللحظية المستمدة من ماكينات الفوترة الإلكترونية التابعة لهيئة الضرائب في المتاجر. وتدهورت الآفاق، وشهد الاقتصاد نوبة انكماشية سريعة.

ويقول كاليسا، الذي انضم إلى البنك المركزي في منصب كبير الاقتصاديين عام ٢٠٢١، "ساعد ذلك الحكومة على مراجعة توقعات النمو، وتعديل الإطار الاقتصادي الكلي، واتخاذ الإجراءات اللازمة على مستوى السياسات في الوقت المناسب".

واليوم، تتضمن* إحاطات مسؤولي بنك رواندا الوطني، التي تسبق اجتماعات لجنة السياسة النقدية ربع السنوية، مجموعة من التنبؤات الآنية. ويعمل كاليسا على زيادة عدد أفراد فريقه من الاقتصاديين والإحصائيين وعلماء البيانات للمساعدة في إعداد هذه التنبؤات. ويقول كاليسا "يتطلب ذلك الكثير من القدرات التحليلية، ولكنه يتيح مؤشرات عالية التواتر أيضا".

ثغرات البيانات

تعد رواندا من بين الاقتصادات النامية التي تتبنى منهجا جديدا في القياس الاقتصادي. ويسعى الكثير من هذه الاقتصادات إلى تقليص الفجوات التي تفصله عن الاقتصادات المتقدمة ومعظم الأسواق الصاعدة في إعداد المؤشرات الرسمية التي تُنشر إما نادرا أو بعد أوانها في العديد من الاقتصادات النامية. وتمتلك هذه الاقتصادات المتقدمة والأسواق الصاعدة ما يلزمها من كوادر وتمويل وموارد أخرى. أما الاقتصادات النامية بكتلتها السكانية الكبيرة، فقد سبقها الركب.

وتشمل المبادرات صندوق التتبع الآني لمؤشرات النمو الاقتصادي والتضخم والتجارة والاستهلاك. وتعمل حاليا بلدان عديدة منخفضة الدخل على تطوير عمليات البيانات بدعم من أنشطة تنمية القدرات والمساعدة الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدولي (انظر الشريط الجانبي).

وتؤثر ثغرات البيانات على البلدان منخفضة الدخل أكثر من غيرها. فتنشر الاقتصادات المتقدمة ومعظم الأسواق الصاعدة بيانات إجمالي الناتج المحلي على أساس ربع سنوي، في حين ينشر حوالي ثلث بلدان العالم بيانات إجمالي الناتج المحلي على أساس سنوي فقط، مما يثير حالة من التخبط بين صناع السياسات لفترات طويلة.

وحتى في البلدان التي تسارع بنشر بيانات إجمالي الناتج المحلي، يستغرق صدورها شهرا أو أكثر من نهاية ربع السنة. وفي أوقات الأزمات، يثير الانتظار قلق صناع السياسات الذين يتوجب عليهم قيادة الاقتصاد دون معرفة وجهته.

وقد سلطت الاضطرابات غير المسبوقة الناجمة عن الجائحة الضوء على هذه الحقيقة، وأبرزت الحاجة إلى مقاييس مكملة أكثر حداثة وتواترا إلى جانب البيانات الرسمية. فقد توقفت بعض الأنشطة، وازدهر البعض الآخر، وتأثرت عمليات جمع البيانات اللازمة لإعداد المؤشرات، مما تسبب في تشوهات. وهي حالة من "الظلام الإحصائي" على حد تعبير برونو تيسو، رئيس قسم الإحصاءات وأمين لجنة إيرفينغ فيشر المعنية بإحصاءات البنوك المركزية في بنك التسويات الدولية.

وفي تقرير* صدر عام 2023 حول إحصاءات البنوك المركزية فيما بعد الجائحة، أشارت اللجنة إلى أن "البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم أدركت أهمية توفير مؤشرات حديثة، بما في ذلك عبر استخدام مصادر البيانات البديلة عالية التواتر، وبناء مؤشرات أسبوعية أو يومية، وتعزيز أنشطة التنبؤ الآني".

أداة التنبؤ الاستشرافي

اُستحدث مفهوم "التنبؤ الآني" في ثمانينات القرن الماضي* كأحد مصطلحات الأرصاد الجوية تعبيرا عن التنبؤ بحالة الجو قبلها بساعات قليلة فقط.

أما في علم الاقتصاد، فيحمل هذا المصطلح دلالة أخرى.

فقد قال دومينيكو جانوني، رائد التنبؤ الآني: "في حالة الطقس، حسبك أن تطل من نافذتك لترى ما إذا كان الجو ممطرا أم لا. أما في الاقتصاد، فعليك الانتظار".

وكانت دراسة* جانوني التي صدرت في عام 2008 حول التنبؤ الآني، واشترك في تأليفها مع لوكريتزيا رايشلين* وديفيد سمول، السبب في دخول هذا المصطلح إلى علم الاقتصاد. 

وقد بدأ جانوني ورايكلين، اللذان كانا يعملان معا آنذاك في جامعة ليبر دي بروكسل، في وضع نموذج للتنبؤ الآني على المدى القصير في عام 2002، بناء على طلب من بن برنانكي، أحد محافظي الاحتياطي الفيدرالي في ذلك الوقت. فقد طلب منهما البحث في جدوى إعداد نموذج شامل للبيانات الكبيرة لأغراض التنبؤ الآني وتحليل السياسات، بحيث يغطي التفاعلات بين قطاعات الاقتصاد الرئيسية. واكتشف جانوني ورايكلين أن إمكانية التنبؤ تقتصر على الحاضر، والماضي القريب جدا، والمستقبل القريب جدا - ما أسمياه "التنبؤ الآني" - وصمما نموذجا لاستخدام البيانات اللحظية في إعداد تلك التنبؤات. وبذلك تحول إعداد التنبؤات مما كان في السابق عملية غير رسمية تعتمد إلى حد كبير على التقدير الشخصي، إلى إطار إحصائي رسمي.  

وتقول رايكلين، الأستاذ في كلية لندن لإدارة الأعمال والمدير السابق لإدارة البحوث في البنك المركزي الأوروبي، إن "الاحتياطي الفيدرالي كان مهتما بمعرفة مدى قدرة هذا الإطار على معالجة إشكالية قراءة جميع الإصدارات المختلفة في الوقت الحقيقي. ففي ذلك الوقت، كانت النماذج الاقتصادية الكلية صغيرة نسبيا - وكان ذلك قبل ظهور "البيانات الكبيرة" - وبدأنا نتساءل، ما هي النماذج التي يمكنها التعامل مع العديد من السلاسل الزمنية بقدر من البساطة بحيث لا تولد تقديرات متقلبة وغير موثوقة؟"

وقد استعان جانوني لاحقا بهذه البحوث في بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، حيث تولى إعداد نموذج للتنبؤ الآني بالتقديرات الأسبوعية* للنمو الاقتصادي الأمريكي ربع السنوي.

وعقب شغله عدة مناصب في كل من البنك المركزي الأوروبي وأمازون وصندوق النقد الدولي، انضم جانوني إلى جامعة جونز هوبكنز هذا العام للتركيز على تحسين قياس النشاط الاقتصادي في البلدان منخفضة الدخل. وقال إن ما دفعه جزئيا لذلك هو إدراكه أن أدوات التنبؤ الآني في الاقتصادات الأكبر والأغني تغطي كافة جوانب الاقتصاد العالمي تقريبا، في حين لا تملك البلدان منخفضة الدخل أيا من ذلك تقريبا.

انعدام الرؤية

تواجه البلدان منخفضة الدخل تحديات بشأن البيانات الرسمية والتنبؤات الآنية المُكمّلة لها، خاصةً في ظل ضغوط الميزانيات الحكومية وندرة الكفاءات. ولكن الممارسين لا يزالوا يأملون في تحسين القياسات الآنية.

وتصدر التقديرات الأولية لإجمالي الناتج المحلي في العديد من الاقتصادات المتقدمة بعد حوالي شهر من نهاية ربع السنة – وبعد شهرين في بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة الرئيسية - ثم تُراجع لاحقا. أما في الاقتصادات النامية، فقد يستغرق الأمر أكثر من ثلاثة أشهر.

فعلى سبيل المثال، يُصدر مكتب الإحصاءات الوطني في كينيا بيانات إجمالي الناتج المحلي بعد حوالي ثلاثة أشهر من نهاية ربع السنة، ولكن البنك المركزي يستخدم أدوات التنبؤ الآني التي نقحها خبراء صندوق النقد الدولي وجانوني للبدء في قياس ربع السنة بعد أسبوع واحد فقط، بناء على بيانات الإنفاق الاستهلاكي الخاص، ثم بيانات تحويلات العاملين في الخارج المتاحة بعد أسبوعين. وتساعد بيانات التجارة والمعروض النقدي والسياحة والكهرباء المتاحة بعد حوالي 40 يوما في توضيح الصورة، كما تتيح مؤشرا جيدا على أداء ربع السنة في نصف الوقت المعتاد.

Loading component...

يقول جانوني إنه في البلدان التي تعاني من ندرة البيانات، كما هو الحال في البلدان منخفضة الدخل، ستكون بيانات المعاملات كتلك المدرجة في نموذج كينيا "مفيدة للغاية" وزاخرة بالمزيد من المعلومات مقارنة بالاقتصادات المتقدمة التي تنشر مؤشراتها يوميا تقريبا. 

وتركز أحدث أبحاثه على الروابط العالمية، وعلى التنبؤ الآني بالنشاط الاقتصادي لبلد ما بناء على قراءات من البلدان المجاورة والشركاء التجاريين والاقتصاد العالمي، باستخدام نموذج يتضمن بيانات إجمالي الناتج المحلي لجميع البلدان.

ويقول "لكل بلد مكون عالمي وآخر إقليمي، وهكذا نستنبط بيانات البلدان التي تمتلك قدرا أقل من المعلومات باستخدام بيانات البلدان التي تمتلك قدرا أكبر من المعلومات"، مشيرا إلى ضرورة الاستعانة ببيانات البلدان المجاورة والشركاء التجاريين الرئيسيين في استيضاح اتجاه النشاط الاقتصادي. ويضيف قائلا "إذا حصلنا على بيانات إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة، قد يكون في ذلك إشارة على بيانات إجمالي الناتج المحلي في كمبوديا، نظرا لوجود قدر كبير من التحركات المشتركة بين البلدين".

ويشير إلى أن التطورات الأخيرة في نماذج اللغة الكبيرة والذكاء الاصطناعي تفتح آفاقا جديدة ومذهلة لاستغلال النصوص كمصدر للبيانات وربط البيانات بالبيانات الوصفية.

كذلك، فإن قياس التوسعات والانكماشات في الوقت الحقيقي يبشر بالمزيد من الفرص، وهو من المجالات البحثية ذات الأولوية في رأيه. ويضيف قائلا "إذا أراد بلد ما التحقق من ركود الاقتصاد دون أن يمتلك بيانات عن إجمالي ناتجه المحلي ربع السنوي، فعليه أن ينتظر عاما كاملا. ولن تكون لدى صناع السياسات فكرة واضحة عن وضعهم الحالي. ولذلك من الضروري للغاية التحرك في هذا الاتجاه."

المصادر عالية التواتر

في جنوب إفريقيا، أحد اقتصادات الأسواق الصاعدة والأكبر في القارة، يسعى الباحثون في البنك المركزي إلى التعمق في فهم الإشارات الاقتصادية المستمدة من البيانات اللحظية، بما في ذلك المصادر الجديدة التي قد تساعد في قياس آثار الاضطرابات. فعلى سبيل المثال، شهد الاقتصاد هناك تفشيا لداء القدم والفم هذا العام. وأدى انقطاع الإمدادات إلى ارتفاع حاد في أسعار لحوم البقر، مما ساهم في تسجيل أسرع زيادة في إجمالي أسعار المستهلكين على أساس سنوي خلال عشرة أشهر.

وقد استمد اقتصاديو بنك الاحتياطي بجنوب إفريقيا قراءات مبكرة من البيانات الزراعية التجارية للحوم والمحاصيل الأخرى لقياس معدل تضخم أسعار الغذاء.

ويوضح ذلك آلية التنبؤ الآني في الواقع العملي وأهميته. وقد أصدرت هيئة إحصاءات جنوب إفريقيا مؤشر أسعار المستهلكين لشهر سبتمبر بعد ثلاثة أسابيع من نهاية الشهر، ولكن البيانات التجارية للشهر نفسه كانت متاحة بالفعل قبل ذلك بأسبوعين.

وتُستمد البيانات الأساسية من المصادر عالية التواتر، مثل مبيعات الجملة والتجزئة ومزادات الماشية وأسواق المحاصيل، التي توفر بيانات مفصّلة عن المكونات الغذائية كاللحوم والفواكه والخضراوات، حسبما تشير مفو رابابالي، وهي خبيرة اقتصادية مسؤولة عن إعداد المقاييس في قسم البحوث. وتقول رابابالي إن التحليل الإحصائي يوضح أن المؤشرات التجارية تتقدم على مؤشر أسعار المستهلكين بفارق يتراوح بين شهر إلى ثلاثة أشهر عبر مختلف المكونات.

وقالت في إحدى المقابلات "ساعدنا ذلك كثيرا في إعداد تنبؤاتنا. ويمكننا أيضا إجراء تحليل أسبوعي للوقوف على المستجدات عبر هذه الفئات الغذائية".

"ابدأ بالبيانات"

ازداد تطور نماذج التنبؤ الآني في السنوات الأخيرة، وتتيح نماذج اللغة الكبيرة الوصول إلى المزيد من البيانات مقارنة بالسابق. ورغم ما قد تنطوي عليه أدوات القياس الجديدة المبتكرة والواعدة من مغريات، فإنه لا تخلو من المحاذير. فيحذر الممارسون من عدم وجود طريق مختصر لتجنب عناء التوسع في المؤشرات الرسمية أو تحسين المقاييس الحالية من حيث التواتر ومستوى التفاصيل. فمن شأن الأساليب الجديدة أن تدعم هذه الجهود، حيث تُستخدم بالتوازي لتوفير المزيد من المعلومات التي يُسترشد بها في صياغة السياسات، ولكنها لا تُغني عن الرصد الدقيق للبيانات.

وتقول رايكلين إن الأساليب المتطورة ليست عادة نقطة البداية المثلى في البلدان محدودة الموارد. وتضيف "عليك أولا تحديد البيانات عالية الجودة التي يصدرها البلد، أو المتغير البديل الذي يمكنك استخدامه في حال عدم توافر بيانات واقعية. ابدأ بالبيانات أولا، ثم يأتي دور الأساليب لاحقا. وهذا أمر مهم للغاية." وتشير أيضا إلى أن النماذج البسيطة غالبا ما تكون أفضل أداء، وأن التنبؤ الآني يعتمد بدرجة أكبر على استغلال إصدارات البيانات المختلفة لاستخلاص إشارات حديثة، والجمع بين سلاسل البيانات متباينة التواتر.

كذلك، فقد تكون البيانات الجديدة مشوشة أو غير ممثِلة، وقد تخفق النماذج الناجحة حينما يتغير العالم، وفقا لما ذكره جوشوا بلومينستوك، الذي قدم عدة استشارات لبلدان في إفريقيا وجنوب آسيا بصفته مديرا مشاركا في مختبر"Global Opportunity" بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، الذي يستخدم بيانات جديدة ومنهجا متعدد التخصصات لتوجيه السياسات. وأضاف أن أدوات البيانات الجديدة تقترن أيضا بشواغل أوسع نطاقا بشأن الخصوصية، والشفافية، والشرعية، والحوكمة.

وتواجه الاقتصادات النامية تحديات أيضا فيما يتعلق بتوفير الكفاءات. فقد تفتقر البنوك المركزية والحكومات إلى الميزانيات والقدرات اللازمة لبناء كوادر من الاقتصاديين والإحصائيين وعلماء البيانات وتزويدهم بأدوات الحوسبة المتقدمة.

إدراك جديد

بعيدا عن التحديات، تتجه الاقتصادات النامية نحو زيادة الاعتماد على التنبؤات الآنية لتعزيز البيانات عند الحاجة، إلى جانب توسيع نطاق المؤشرات الاقتصادية الرسمية.

فعلى غرار كاليسا في رواندا الذي يعمل على دعم إدارته بمزيد من الكوادر، يسعى نظير له في الطرف الآخر من العالم إلى الهدف ذاته. ففي ساموا، أحد أقل بلدان العالم سكانا، حيث لا يتجاوز عدد سكانها 220 ألف نسمة، مر عامان على تطبيق نظام رسمي للتنبؤ الآني، بدعم من المساعدة الفنية التي قدمها صندوق النقد الدولي. وفي البنك المركزي، الذي يضم أقل من 90 موظفا، يتوقع كاراس لوي، مدير إدارة الاقتصاد، زيادة عدد أعضاء فريقه من 8 إلى 10 أفراد.

ويقول لوي "سنسعى إلى الحصول على المزيد من الموارد تدريجيا بينما نواصل بناء قدراتنا على التنبؤ. فهناك إدراك في الوقت الحالي بين أعضاء مجلس الإدارة ليس فقط لأهمية هذه الأدوات الجديدة، بل لجدوى ما نقدمه من تحليلات أيضا."

البيانات والابتكار في إفريقيا جنوب الصحراء

دراسات حالة حول جهود الصندوق في مجال تنمية القدرات توضح دور تحسين القياس الاقتصادي والابتكار التكنولوجي في صنع السياسات السليمة

جمهورية الكونغو الديمقراطية

تعزيز قرارات السياسات

بنك الكونغو المركزي هو أحد البنوك المركزية التي تعمل حاليا على وضع نظام للتنبؤ الاستشرافي وتحليل السياسات بمساعدة صندوق النقد الدولي. ويهدف هذا النظام إلى تعزيز التحليل الاقتصادي ودعم الإطار المنظم لعملية صنع القرار وتحسين التواصل مع الجمهور.

والتنبؤ الآني من أهم ابتكارات هذا النظام، فهو عنصر بالغ الأهمية في بلد لا يزال يواجه صعوبة في إعداد إحصاءات موثوقة، ولا يصدر بيانات رسمية عن إجمالي ناتجه المحلي إلا على أساس سنوي فقط وبفارق زمني طويل. وتساعد المعلومات الحديثة صناع السياسات على الكشف عن نقاط التحول في النمو ومعايرة استجابات السياسات بفعالية أكبر. ويواجه صناع السياسات أيضا تحديات ناجمة عن ارتفاع مستويات الدولرة؛ ودورة الانتعاش والكساد في قطاع التعدين الرئيسي الذي يُسهم بنحو ثلث إجمالي الناتج المحلي؛ وتأثير أسعار الصرف وأسعار السلع الأساسية على التضخم.

ويستخلص إطار التنبؤ الآني بالبنك المركزي الإشارات الاقتصادية اللحظية من مزيج يجمع بين المؤشرات التقليدية عالية التواتر- مثل إنتاج النحاس والكوبالت وأسعارهما والمعروض النقدي - والمدخلات غير التقليدية مثل كثافة الإضاءة الليلية واتجاهات البحث على محرك غوغل. وتُدرج النتائج في نموذج التوقعات ربع السنوية الذي يربط التقييمات قصيرة الأجل بالتنبؤات وسيناريوهات السياسات متوسطة الأجل. وتساعد هذه الأدوات البنك المركزي على تطبيق سياسة نقدية استشرافية وشفافة وقائمة على البيانات.

غينيا بيساو 

شفافية تقنية "بلوك تشين"

في عام 2020، واجهت غينيا بيساو تحديا جسيما على مستوى المالية العامة: فقد استهلكت فاتورة أجور القطاع العام حوالي أربعة أخماس إيراداتها الضريبية، وهي من أعلى النسب في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء. وقد افتقرت إدارة رواتب ومعاشات موظفي الخدمة المدنية إلى الشفافية، وكانت عرضة للأخطاء وسوء الاستخدام.

وبالتعاون مع صندوق النقد الدولي وشركة إرنست آند يونغ للخدمات الاستشارية والجهات المانحة، أصبحت غينيا بيساو في مايو 2024 من أوائل بلدان المنطقة التي تطبق تكنولوجيا البلوك تشين لإدارة فاتورة أجور القطاع العام في وزارتي المالية والإدارة العامة.

وتُنشىء هذه المنصة الآمنة سجلا رقميا بجميع الرواتب والمعاشات التقاعدية لمختلف الجهات الحكومية، وهو سجل كاشف للتلاعب يوضح أي تباين في المعاملات، ويتيح في الوقت الحقيقي تقريبا تتبع الطرف الذي يتقاضى المدفوعات وقيمتها والتحقق من تصريحات الصرف. ومن شأن هذا السجل أن يحد من عبء التدقيق، وأن يوفر لصناع السياسات بيانات مالية دقيقة وحديثة، إلى جانب إرساء الأساس اللازم لاستخدام الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في المستقبل.

ويعد مشروع "بلوك تشين" أداة فعالة لدعم العديد من الإصلاحات التي تهدف إلى مراقبة الإنفاق على الأجور، والتي تم الاتفاق عليها في إطار برنامج يدعمه صندوق النقد الدولي. والنتائج واعدة. فقد انخفضت فاتورة الأجور إلى نصف الإيرادات الضريبية في عام ٢٠٢٤، وهو تحسن كبير، ولكنها لا تزال أعلى من المقاييس المرجعية الإقليمية. وسيتم توسيع نطاق المنصة لتشمل جميع موظفين القطاع العام البالغ عددهم ٢٦٦٠٠ موظف، و٨١٠٠ متقاعد على مستوى البلاد.

كينيا

رؤى لحظية

تمتلك كينيا بيانات اقتصادية كلية عالية الجودة نسبيا مقارنة بالاقتصادات النظيرة. ومع ذلك، عادة ما تصدر تقديراتها الرسمية ربع السنوية لإجمالي الناتج المحلي بعد ثلاثة أشهر على الأقل من نهاية الربع، كما تتأخر في نشر بعض مؤشرات النشاط الاقتصادي الأخرى عالية التواتر. وفي هذا السياق، فإن بناء نماذج التنبؤ الآني باستخدام البيانات المتوفرة قد يتيح لصناع السياسات قراءة سريعة للنشاط الاقتصادي قبل نشر بيانات إجمالي الناتج المحلي الرسمية.

وتشير بحوث صندوق النقد الدولي الحالية في مجال التنبؤ الآني إلى إمكانية تقدير النمو الاقتصادي في كينيا بصورة تقريبية إلى حد كبير قبل صدور بيانات إجمالي الناتج المحلي الرسمية، بناء على الحركة المشتركة في مجموعة من المؤشرات (الاقتصادية والمالية وغيرها) خلال الدورات الاقتصادية. ويبحث البنك المركزي الكيني حاليا، مدعوما بالمساعدة الفنية المقدمة من صندوق النقد الدولي، في كيفية إثراء رؤيته بشأن النمو الاقتصادي باستخدام أساليب التنبؤ الآني واستخلاص المحتوى المعلوماتي من المسوح نصف الشهرية.

والتنبؤات الآنية، المعززة بفضل التقدم المحرز في إتاحة البيانات وتكنولوجيا الحوسبة، تساعد الاقتصاديين والمستثمرين وصناع السياسات على قياس الأداء الاقتصادي في الوقت الحقيقي. وأخيرا، تشير بحوث صندوق النقد الدولي أيضا إلى أن التنبؤ الآني يمكن تطبيقه على البلدان التي لا تتوافر لها تقديرات ربع سنوية حول إجمالي ناتجها المحلي.

مدغشقر

الإدارة الجمركية المدعومة بالذكاء الاصطناعي

تواجه مدغشقر، شأنها شأن العديد من بلدان العالم، تحديات كبيرة في إدارة تعقيدات عمليات التجارة الدولية وحجمها، ولا سيما الكشف عن الاحتيال في الإقرارات الجمركية.

وتشكل الضرائب على التجارة الدولية أحد أهم مصادر الإيرادات الحكومية. وبالرغم من أن التحول الرقمي قد شمل بالفعل جزءا كبيرا من عمليات الجمارك، فإن أتمتة بعض مكوناتها، وخاصة تحليل مخاطر الاحتيال، لا تزال بعيدة المنال، وهو ما يعزى جزئيا إلى ندرة البيانات ومحدودية أساليب تحليل البيانات غير المهيكلة والمعلومات النصية.

وفي أكتوبر، أطلق مسؤولو الجمارك الذكاء الاصطناعي الوكيل، وهو أحد أشكال الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه اتخاذ قرارات مستقلة للكشف عن التناقضات التي قد تشير إلى الاحتيال من خلال التحليل المقطعي للإقرارات الجمركية والفواتير وقوائم الشحن وقواعد البيانات الخارجية والداخلية. وقد ساهم ذلك في أتمتة الكثير من المهام اليدوية التي يضطلع بها المفتشون الجمركيون الميدانيون، مما سمح للخبراء بالتركيز على القضايا المعقدة.

وهذه المبادرة، التي تم إطلاقها بدعم من المساعدة الفنية وأنشطة تنمية القدرات المقدمة من صندوق النقد الدولي، وبناء على الدعم السابق من دائرة الجمارك الكورية، ساهمت في تطوير القدرات التكنولوجية، مع السماح للإدارة الجمركية بامتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي ومواصلة تطويرها. ويُسلط هذا العمل الضوء على دور التكنولوجيات الجديدة في تعزيز نزاهة الجمارك وكفاءتها، وتحديث ضوابط التجارة.

المصدر: خبراء صندوق النقد الدولي.

جيف كيرنز من فريق مجلة التمويل والتنمية.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.

أحدث المجلات للتمويل والتنمية